من أصعب الأمور على النفس البشرية الإعتراف بالخطأ وتقييم الماضي والتراجع عنه ، وتتحول هذه الظاهرة إلى واقع مأساوي في مجتمعات تحكمها عقائد مطلقة وتربية تجعل كل فرد يظن بأنه يملك الحقيقة المطلقة ، ويمكنه من إصدار الأحكام على أصغر القضايا وأكبرها ، وتترسخ هذه الظاهرة في ظل غياب الروح الموضوعية والعلمية وغياب الديموقراطية والمؤسسات ونظام للمحاسبة ينطبق على الجميع ، مما يسمح للفرد أو النظام بالتهرب من مسؤولية أعماله وإلقائها على كاهل طرف آخر .
وما ينطبق على الفرد بهذا الصدد يشمل أنظمة الحكم طالما كانت من نسيج هذا المجتمع وحصيلة ثقافته وتطوره وتربيته ، لكن المأساة تصبح مضاعفة وتتحول إلى كارثة على الصعيد السياسي ، لأن عدم الإعتراف بواقع الأمور والأخطاء يعني انفصالا عن الواقع ، وفصامـًا بين ما يقوله هذا النظام وبين ما يمارسه ، فعدم القدرة على إعادة النظر ومراجعة أخطاء الماضي ، تعني عدم القدرة على التقدم وبالتالي مزيدًا من الأخطاء والخطايا .!
ما دعانا إلى ما سبق مقتل العقيد في الأمن الوقائي الفلسطيني عماد فياض في منطقة الشيخ زويد بمحافظة سيناء مصابا برصاص الجيش المصري قبل أيام ، وتركه ينزف دون أن يتم تقديم المساعدة له ، حيث عثر عليه في اليوم الثاني احد البدو من سكان العريش وقام بفحص جواله واتصل باهله .
والشهيد عماد فياض و عشرات مثله من كوادر حركة " فتح " يعيشون في مدينة العريش ولا يستطيعون العودة إلى قطاع غزه بسبب أحداث الانقسام الداخلي عام 2007 م .
لا نريد العودة للوراء و الحديث عن الذين أشعلوا نار فتنة الأنقسام بين أبناء الشعب الواحد بعد هذه السنوات ، ولكن ما يهمنا هنا ما آلت إليه أحوال هؤلاء الشباب من إهمال من سلطة رام الله تحت ذريعة أنهم موالون لمحمد دحلان ..!
من هنا جاءت المطالبة بعودة هؤلاء الشباب إلى وطنهم الأم .. إلى فلسطين .. فيكفيهم موتا وجثثاً تعود إلى الوطن مسجية ، ويكفيهم تشتيت وغربة في المنافي و الشتات ، ويكفي ما تحملوه من هجرة إخوانهم عبر البحر ولازالوا مفقودين هم و أسرهم حتى الأن ، وبلغ عددهم أكثر من ثلاثين فتاه وشاب ورجل وإمرأة.!
ويكفيهم تخلي سلطة رام الله عنهم منذ سنوات ، حيث كانت تقوم بصرف 300 دولار لهم بدل سكن ، وبعد أن تم فصل محمد دحلان من عضوية حركة فتح في يونيو " حزيران " 2011 م تم رفع هذا المبلغ عنهم ، وترك هؤلاء الشباب دون أي عناية أو متابعه أو حتى اتصال بهم ، حيث يعيش معظمهم في ظروف مأساوية وصعبه جدا بالعريش .!
لقد أعادت كلمات القيادي في حركة " حماس " يحيى موسى العبادسة والتي قال فيها بأن حركته لا تمانع في التعاون مع النائب في المجلس التشريعي محمد دحلان ، وان هذه التعاون سيكون ايجابيا ، أعادت الأمل لكوادر حركة " فتح " في الشتات والمنافي بالعودة إلى ديارهم بعد أن خذلتهم قياداتهم المتهالكة في رام الله .
ورحب العبادسة بعودة محمد دحلان إلى غزة ، حيث يحق له ولكل فلسطيني أن يزور أهله وأسرته وعائلته ، لان حماس لا تمنع احد من زيارة ذويه.
لقد أدركت حركة " حماس " بأن رئيس السلطة محمود عباس لا يريد المصالحة ، بل يريد أن يهين حماس ، و يواصل حصار قطاع غزة بكل الوسائل و هو ما أكده القيادي يحيى موسى العبادسة حيث قال :
" أي قيادي فلسطيني يدعم ويقف بجانب شعبه ويحرص عليه ويظهر نوايا حسنه ، سيتعامل معه الشعب الفلسطيني لا لغيظ احد أو مقتا لأحد، لان الشعب الفلسطيني يحتاج قيادة تدرك حاجته الماسة لتقوية أواصر الحياة الاقتصادية ، وعدم التعاون مع الاحتلال الاسرائيلي " .
لقد أعادت كلمات العبادسة روح الوحدة الفلسطينية الحقيقية بين أبناء الشعب الواحد ، وتلاحم الدم بين أبناء الفصائل الذي عايشناه في الأنتفاضتين الأولى و الثانية خاصة وأن الموضوع المطروح هو المصير الوطني للشعب الفلسطيني في ظل هجمة إسرائيلية ــ أمريكية للقضاء على آخر منجزات هذا الشعب .
للتاريخ فأن القضية الفلسطينية قد شهدت عبر تاريخها الطويل مراحل متعددة ومتـنوعة من النضال والجهاد من أجل إنهاء الإحتلال الإسرائيلي ، وشهدت كذلك عددًا هائلا من الفصائل والتـنظيمات الأسلامية والوطنية ذات التوجهات المختلفة في رؤية العمل والمتفقة في الهدف النهائي ، وقد حان الوقت لكي تتفق جميع هذه الفصائل وتتوحد على آلية عمل واحدة لمواجهة تحديات المرحلة القادمة من حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها العدو الإسرائيلي بجميع شرائحه وطوائفه ضد كل ما هو فلسطيني..!!
إن ما تحتاجه القضية الفلسطينية هذه الأيام هو الوقوف صفاً فلسطينياً متراصاً أكثر من أي وقت مضى لمجابهة أعباء المرحلة القادمة ، والحفاظ على وشائج الوحدة الوطنية داخل الصف الفلسطيني ، وتغليب المصلحة الوطنية على كل الاحتمالات والرؤى الجانبية .
لهذا يجب علينا أن نرتقي لمستوى الحدث ، و أن لا نهبط إلى حضيض الصراعات والمزايدات التي لا طائل من ورائها سوى تأجيج الأوضاع ، وتغليب الفتق على الرتق في الوقت الذي نحتاج فيه جميعا إلى تهدئة الأوضاع وتخفيف حدة الإحتقان بين أبناء الشعب الواحد سيما وأنّ قوى دولية و إقليمية وعربية تزعجها ملحمة الصمود الرائدة التي أبداها الشعب الفلسطيني في التصدي للعدو الأسرائيلي ، وتسعى بالتالي إلى إفشالها بمساندة طرف على حساب آخر ، ومحاولة تأجيج حالة الانقسام .!
و لأن فلسطين تقف في مفترق طريق حقيقي ، فإن هناك ما يدعو الى التفاؤل في حديث العبادسة بعودة قيادات و كوادر حركة " فتح " للوطن ، وكذلك وهو يطرح الرغبة في أن يتحلى الجميع بالشجاعة والصبر والتفاؤل لبدء الحوار بين الجميع ومراجعة أخطاء الماضي ، وبلا سقف إلا سقف الأحتكام إلى الشعب .
إن الاختلاف هو سنة كونية يواجهها العالم بالتقبل والاحتواء والاحترام ، هذا هو ما يصنع الحضارة ويضمن الحياة للجميع ، و نرى ذلك في دول العالم المتقدم ، لذلك نطالب بعودة كل فلسطيني إلى أر ض وطنه ، ففلسطين هي وطن التعايش والتسامح الذي يتسع لكل أبناءه على الأرض المباركة .
أقول هذا وأنا على يقين بأنّ فلسطين أكبر منا جميعاً ، وهو ما نعرفه جيداً وتهجيناه منذ الطفولة ، وقرأناه بدقة ووضوح ، و كتبناه بدم أطفالنا و نساءنا و شيوخنا و شبابنا و قادتنا أن فلسطين أكبر من الجميع ، وهي أكبر من جعلها ارتهاناً يغامر به المقامرون و الفاسدون ، وأكبر من صراعاتنا وخلافاتنا ومعتقداتنا مهما كانت ، وأكبر من كرسي السلطة ، وأكبر من المناصب و الرتب والقيادات المهترئة ، وأكبر من دمنا و أرواحنا ، وأكبر من أحلامنا الذاتية ومن أوهامنا ورغباتنا السياسية الخاصة ، و أكبر من الحصار و الجوع , و أكبر من أي اسم وأي شخص , فتاريخ فلسطين جمع النكبات و الانتصارات , جمع الأبطال و أيضا الخونة على طول الدهر.!
إن فلسطين أكبر من الجميع و فوق الجميع .!
وهي أكبر من الحكومات ، و أكبر من الفصائل مجتمعة ، ومن رأى نفسه أكبر من فلسطين فهو أصغر خلق الله .!
ويكفي أن ننظرَ بعين بصيرة إلى ما تحقّق في السنوات القليلة الماضية من إنجازات صنعها أبطال الفصائل الفلسطينية المقاتلة حتى ندركَ بما لا يدع مجالا للشك بأنّ مرحلة صناعة الأصنام اندثرت ولن تعود إلى الأبد .!
ولتكن آخر كلمات الشهيد كمال ناصر قبل استشهاده نبراسـًا لكل فلسطيني في المرحلة القادمة :
( أما القيادات فتتغير ، وأما الأشخاص فسيزولون ، وتبقى القضية أكبر من القيادات والأشخاص ، ولابد أن يذوب الجزء في الكل وأن يذوب الكل في الثورة قبل أن تـُسقط الثورة كما فعلت في الماضي القريب الأجزاء التي لا تستحق الحياة ) ..!!