ظل جنوب سوريا بمحافظاته الثلاث (السويداء، درعا والقنيطرة)، بمنأى عن نفوذ “داعش” وحروبها متعددة الجبهات طوال العامين الفائتين، وبدا أن هذه المنطقة بالغة الحساسية، قد سُيّجت بخطوط حمراء، إقليمية بالأساس، تمنع سقوطها تحت قبضة “الدولة” التي لا ترحم أبداً.
الصورة بدأت تتغير في الأيام الأخيرة على ما يبدو، والأمر مثير للقلق والاهتمام، سورياً وأردنياً وإقليمياً ... ففي المعلومات أن تنظيم الدولة يحشد قواته في مناطق البادية الشرقية – الجنوبية المتاخمة لحدود محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، وأن احتكاكات عسكرية طفيفة قد وقعت على امتداد خطوط التماس بين القرى الدرزية ومناطق تجمع قوات “داعش” في بلدة بير القصب الصحراوية، وتتحدث مصادر “النصرة” ومواقع الجيش السوري الحر، عن احتمالات قيام “داعش” باستهداف درعا أساساً، لتوسيع نفوذ دولتها من جهة، ولتكون حاضرة بقوة على خطوط التماس والحدود الإقليمية مع سوريا جنوباً، بعد أن حضرت بقوة على هذا الخطوط شمالاً وشرقاً.
المنطقة المذكورة، شديدة الحساسية والتعقيد على المستويين المحلي والإقليمي كما أسلفنا، فالسويداء هي مركز الوجود الدرزي في سوريا، والدروز في نظر “داعش” أشد كفراً من اليهود (؟!)، وقتالهم واجب إلى أن ينصاعوا لأمر الله وسيف خليفته ... ومحافظة درعا، تتاخم حدود سوريا مع الأردن، وهي الأقرب لبلدات وقرى الشمال الأردني، فيما تمتد حدود محافظة القنيطرة إلى الجولان المحتل وتحاذي الحدود مع دولة الاحتلال، وتلامس مناطق لبنانية شديدة الحساسية سكانياً وأمنياً.
حتى الآن، ظلت المعارك الأساسية في هذه المحافظات، تدور بين قوات النظام من جهة، وخليط غير متجانس من قوات المعارضة، بعضها معتدل، ويقيم علاقات “حسن جوار” مع الأردن، حيث انعقد الرهان عليها، لخلق منطقة آمنة تفصل شمال البلاد عن “النصرة” و”داعش”، وأغلبها متطرف، ينتمي إلى “النصرة” التي أخرجت من حساباتها تكتيكياً، هدف محاربة الأردن وتحويله إلى ساحة “جهاد”، وفضلت أن تحصر “جهادها” بالأراضي السورية، وإن كانت لا تتوانى عن استهداف لبنان من مناطق القلمون وعبر عمليات نوعية ضد أهداف منتقاة من الجيش وعناصر حزب الله والبيئة الحاضنة له.
بعض التقديرات لـ “نوايا داعش”، ما زالت مشوبة بكثير من الارتباك والغموض ... هل أصبحت درعا فعلاً، هي الهدف التالي لـ “داعش”، أم أن وراء الأكمة عملية تمويه ومناورة تكتيكية تغطي على هدف آخر لـ “داعش”، ليبقى السؤال: ما هو وأين، ومتى سيحل غبار المعارك الحقيقية محل غبار المناورات وعمليات التمويه؟!
في البحث عن أسباب ودوافع هذا “الانتباه المتأخر” لدرعا من قبل داعش، تدور تكهنات كثيرة، منها أن التنظيم الذي استُنزِفَ في عين العرب – كوباني، ولم ينجح في إحداث اختراق استراتيجي في دير الزور ومطارها العسكري بشكل خاص، يسعى للتعويض بنجاح سريع يحققه في المنطقة الجنوبية، التي يبدو أن “المعارضات” السورية الأخرى، تحقق تقدماً فيها، كما يبدو أن النظام “غير مستعجل” لحسم معاركه فيها، ويريد أن يلقي بأعباء المعارضة والمسلحين و”المجاهدين” في أحضان دول الجوار، بدل أن تظل تعبث في حضنه وحده.
من التقديرات الأقرب للتكهنات، أن التنظيم استوعب مؤخراً، وبعد الموصل بشكل خاص، ألوف المقاتلين الإضافيين، وأن لديه “بطالة” في صفوفهم، وأن إشغالهم بـ “فتوحات” جديدة، هو أمر يحرص عليه “خليفة المسلمين” أبو بكر البغدادي، والمعركة في درعا ومن أجلها، قد تكون أقل صعوبة من معارك أخرى ومناطق أخرى، وقف التنظيم على عتباتها من دون أن يقوى على اختراقها أو إخضاعها.
في حروبه مع الآخرين، بدت الصورة بالنسبة للتنظيم أكثر وضوحاً ... الأكراد يستميتون في الدفاع عن مناطقهم، وهم يحظون بدعم دولي منقطع النظير، والحرب معهم مكلفة، وليست نزهة قصيرة بحال من الأحوال ... وفي المواجهات مع الجيش السوري، تبدو المعارك قاسية ومكلفة، إذ باستثناء المباغتات والمفاجآت في جولات الاشتباك الأولى بين النظام و”داعش” حول حقل الشاعر، لم يحقق التنظيم أي اختراق استراتيجي يذكر.
وحدها حروب التنظيم مع المعارضات السورية المختلفة، كانت تأتي بنتائج فورية ومكاسب سريعة، وهذا ما يراهن على إنجازه في المنطقة الجنوبية تحديداً، وبصورة تعيد له بريقه “وقدرته الردعية” بعد ان بدأ يخسر أرضاً في العراق، ويتحضر لمعارك قوية مع الربيع القادم، وبعد أن طال انتظاره وطالت قوائم قتلاه، على أعتاب كوباني.
لا يعتقد كثيرون، أن أولى معارك التنظيم ستكون مع السويداء، فهو يعرف أن الدروز أيضاً، سيقاتلون بشراسة كما قاتل الأكراد دفاعاً عن قراهم ونسائهم وأطفالهم، فهم يعرفون ما ينتظرهم تماماً إن نجح التنظيم في دخول مناطقهم... الأرجح، إن صحت الترجيحات، أن تكون درعا هي أولى الجولات الجنوبية لتنظيم الدولة.
يطرح هذا الأمر تحدياً كبيراً على الأردن، لجهة حفظ أمن حدوده الشمالية، كما يطرح تحدياً على إسرائيل الساعية لبناء تفاهمات وتحالفات مع المعارضة و”النصرة”، وليس من المستبعد تماماً أن يترتب على حروب التنظيم مع “معارضات” الجنوب، موجات هجرة ولجوء جديدة، كما أن ارتفاع منسوب التهديد الأمني لدول الجوار، سيكون أمراً محتوماً، إن قُدّر لـ “الخلفية” أن يمد ولايته إلى جنوب سوريا.