تعيش العواصم وهْمَ التأثير والتمثيل وصناعة القرار، رغم انها في مجملها لصيق انسجة وليست نسيجا، وفي اغلبها احياء متلاصقة ومتباينة دون روابط جمعية باستثناء التلاصق الداخلي للحي الواحد المتكون من نسيج مهاجر الى العاصمة، باستثناء ثلاث عواصم على الاكثر نجحت في فرض بصمتها وطغيانها على الحالة الوطنية، فعاصمة الياسمين دمشق نجحت في ان تكون هي الشام، فساد طغيانها على باقي المدن حتى وصل الى ان السوري القادم من الارياف او المدن الى دمشق بأن يقول “ ذاهب الى الشام “، وكذلك طغت القاهرة على مصر وصارت القاهرة تحمل اسم مصر وقال الصعيدي او الاسكندراني عن القاهرة ما قاله الشامي عن دمشق ونذكر ان الصعيدي كان يقول بلهجته المحببة بأنه سيتدلّى الى مصر كناية عن القاهرة وكذلك ساد طغيان القدس على باقي المدن الفلسطينية ليس بحكم التأثير الديني فقط بل بحكم التأثير الاجتماعي والاقتصادي للعوائل المقدسية وامتلاكها مفاتيح ابواب المدينة، والمفاتيح قصة بحاجة الى مراجعة وقراءة فكل العواصم التي مارست طغيانها لديها ابواب ومفاتيح ممسوكة من عائلات خاصة العواصم الشامية .
عمان لم تمتلك الابواب وعوائلها لا تمسك المفاتيح، فهي خليط من انسجة متعددة رغم اسبقية الشركس في قاعها واسبقية العجارمة والعبابيد والبلقاوية على اطرافها، ومع ذلك نجحت العاصمة في الاستئثار بالبريق والخدمات والنشاط الاقتصادي في علاقة ملتبسة بين كل ما سبق، فلا نعلم على وجه الحصر هل جاءت الخدمة كدليل نجاح للاقتصاد ام ان الاقتصاد فرض الخدمة المتميزة في بعض الاحياء وليس كلها، فالقادمون من مختلف المحافظات الى الاحياء المغلقة باسمهم ولهم، حملت احياؤهم جينات الخدمة القليلة كما الخدمة في مسقط الرأس وربما اسوأ، لكنه بريق العاصمة الجاذب لقصص النجاح السريع والثراء الاسرع، فسقط الحلم على مذبح الظرف الموضوعي وهرب من نجح في تحقيق حلمه من تلك الاحياء الى مناطق الثراء والنفوذ كدليل اضافي على النجاح واذا ما رصدنا اماكن سكن النخبة العمانية التي تدّعي تمثيل المناطق الفقيرة فلن تجد احدهم يسكن فيها بل يزورها كل موسم حسب الحاجة والضرورة فبقيت الاماكن القديمة والاحياء الفقيرة رصيدا بشريا لتلك النخبة .
العاصمة اثارت حفيظة فقرائها كما اثارت حفيظة جوارها القريب من المحافظات والبعيدة منها، رغم وجود كل التلاوين الاجتماعية داخلها فالعاصمة تجميع كامل لكل الاردن لكنها لم تنجح في تمثيله بل ان قراراتها تجد الصدود خارجها مع عداء اضافي لها، فالعاصمة مارست دور المولينكس او الخلّاط الكهربائي التي هشمّت المكونات داخلها ولم تنتج مزيجا له ذائقة خاصة باستثناء قلب حرف القاف الى ألف كدليل على الرقي والتمدن، وهذا ما دفع المحافظات الى الحفاظ على خشونتها في اللغة والسلوك نكاية في عمان او لاثبات عدم تطويعها للعاصمة وقواها الاجتماعية والاقتصادية، فالوجود الشامل لكل التكوينات في العاصمة لم يجعلها نموذجا مصغرّا للاردن الذي بقي حاضرا خارج العاصمة وليس داخلها ولعل مشاركة صغيرة خارج العاصمة تثبت ذلك، فما زالت كل الاحلام الاجتماعية والموروث الايجابي حاضرة خارج العاصمة رغم الايذاء الذي طال تلك المواريث والاحلام .
المحافظات بحاجة الى اعادة الاعتبار والى اعادة التمثيل والى استخراج الكفاءات والمواهب داخلها مع تمكينهم– المواهب والكفاءات - من الاقامة والبقاء داخلها وليس سحبهم الى العاصمة لادخالهم في خلّاط الحياة تمهيدا لازالة ذائقتهم ونكهتهم، فليس مهما بناء المقرات للمؤسسات الثقافية وافرع الاحزاب بل المهم قبول منتجاتهم الفكرية والسياسية دون سحبهم الى العاصمة لتذويبهم وتقليل تمثيلهم في محافظاتهم، فنحن نبحث عن اشعاعات تتوهج في كل المناطق وليس تركيز الاشعاع في محافظة واحدة حتى لو كانت العاصمة، فمحافظة المفرق شهدت حضور اول دار سينما والسلط ما زالت تعرف شارع السينما والحمام والتياترو وكذلك اربد والسؤال ماذا بقي من هذه المعالم على ارض المحافظة ؟