في الوقت الذي طالبت فيه أكثر الفصائل الفلسطينية؛ من كان منها خارج منظمة التحرير مثل: حماس والجهاد، ومن كان داخلها كالشعبية والديمقراطية، بسحب مشروع القرار الذي قُدم لمجلس الأمن بشأن إنهاء الاحتلال، فقد رحَّبت جميعا بتوقيع عباس على وثائق الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية.
وفي حين كان مشروع مجلس الأمن في نسخته الأولية كارثيا بكل المقاييس لما ينطوي عليه من تنازلات مجانية تتجاوز بكثير قرارات ما يسمى الشرعية الدولية، فقد جاءت التعديلات المتأخرة عليه كي تحسّن النص لحفظ ماء الوجه، من دون أن تلغي حقيقة ما ينطوي عليه من تراجع عن القرارات المشار إليها.
ومن حسن الحظ أن واشنطن قد بادرت إلى استخدام حق النقض «الفيتو» ضد المشروع، ربما لأن اللوبي الصهيوني لا يريد لتلك الخطوة أن تؤثر على فرص نتنياهو في الفوز بالانتخابات، لكن مرور المشروع لم يكن ليغير في حقائق الواقع شيئا، إذ يعلم الجميع أن ثمة قرارا من محكمة لاهاي العام 2004 يُعد أفضل من القرارات الدولية السابقة، لكنه ما لبث أن وجد مكانه على رفوف الأمم المتحدة، شأنه في ذلك شأن القرارات السابقة.
لو كانت القرارات الدولية تعيد الحق للشعب الفلسطيني، لكانت القضية سهلة وبسيطة فيما يتعلق بالمطلب الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية منذ العام 74، أعني التنازل عن 78 في المئة من فلسطين والقبول بما تبقى، لكن الكل يعرف أن الصهاينة لم يعترفوا عمليا بأي قرار دولي، بما في ذلك 242، ولم يطبقوا أي قرار، فهم يأخذون ما يريدون ويتركون ما يريدون، ومن يلتهم الضفة الغربية والقدس بالاستيطان، ويرفض مجرد التجميد أثناء المفاوضات؛ لا يتخيل عاقل أنه سينسحب من كل الأراضي المحتلة عام 67 بما فيها القدس الشرقية، فضلا عن أن يعيد اللاجئين إلى الأراضي المحتلة عام 48، والذين رفضت ليفني كما كشفت وثائق التفاوض إعادة أي واحد منهم.
هو مسار عبثي، والكل يدرك ذلك، لكن عباس ذهب فيه حتى النهاية، ووصل إلى مجلس الأمن، واصطدم بالفيتو، فهل سينفذ الوعود التي قطعها على نفسه في حال الفشل؟
فيما يتعلق بالوعد الأول ممثلا في الانضمام إلى الجنائية الدولية؛ يمكن القول، إنه نفذ، ولكن ماذا عن الوعود الأخرى التي طالما لوّح ووعد بها، وأولها وقف التنسيق الأمني مع العدو، ومن ثم حلِّ السلطة أو ترك إدارتها للاحتلال كي يتورط في الأمر، بما ينطوي عليه ذلك من خسائر اقتصادية وأمنية وسياسية.
من المؤكد أن شيئا من ذلك لن يحدث، فلا التنسيق الأمني سيتوقف، ولا السلطة ستُحل، أما الوعد الآخر الذي طالما لوّح به في القديم، وتجاهله في العامين الأخيرين، ممثلا في الاستقالة، فيبدو أنه نسيه تماما، مع أنه الوعد الأهم الذي ينبغي أن يطبقه، لاسيما أن ما جرى هو إعلان فشل كامل لمشروعه، وما دام قد كرر مرارا أن انتفاضة لن تندلع ما دام على قيد الحياة، وما دام ضد خيار المقاومة، فإن عليه أن يرحل ويترك الشعب الفلسطيني يتدبر أمره، لأن كل العقلاء يعرفون أنه من دون أن يغدو الاحتلال مكلفا، فإن شيئا لن يتغير، بل إن فترات الهدوء والتفاوض كانت الأكثر ازدحاما بالاستيطان والتهويد، وقد منح عباس الاحتلال عشرية استثنائية من الأمن والأمان، منذ العام 2004، فكان أن استغلها الصهاينة في تعزيز الاستيطان والتهويد، وصولا إلى التهديد العلني اليومي للمسجد الأقصى الذي أفشلت قضيته مفاوضات كامب ديفيد صيف العام 2000.
حين يتبنى زعيم ما مشروعا معينا، ثم يفشل على نحو واضح، فليس أمامه سوى واحد من خيارين؛ إما أن يغيِّره ويعود إلى الآخر الذي يطالب به الشعب وقواه الحية، وإما أن يرحل، ولا يبدو أن عباس سيفعل ذلك، فلا هو سيرحل، ولا هو سيقبل بخيار المقاومة الحقيقية التي تجعل الاحتلال مكلفا؛ ما يعني أننا سنبقى بانتظار أن يجترح الشعب المعجزة المنتظرة، ويفجر الانتفاضة رغما عن عباس ومن يسيرون في ركبه، لاسيما أن الأمل بضغوط من حركة فتح لتغيير المسار لا تبدو واردة، فالرجل لا يرحم معارضيه أبدا، بل يقصيهم، ويتحكم بكل شيء في المنظمة (التي همّشها)، وفي فتح وفي السلطة في آن.