بحسب تأكيداته المتكررة، فهو لم يرتكب طيلة حياته عملا يخالف عليه القانون، بل لم يخطر في باله أبدا أن يقترب من أي منطقة قد توصله إلى أي مركز أمني، أو محكمة، فهو «مواطن» إلى حد كبير، يبذل كل ما أعطي من قوة كي يكون مثالا للصلاح، والاستقامة القانونية، وقد وفرت له هذه الميزة فرصة أن يكون رجلا أقرب إلى الدماثة والأخلاق والنبل، لأنه لا يحب المشاكل والاشتباك مع أحد، ولا يتقن مثل هذه الفنون أصلا، لهذا يؤثر حل أي إشكال مرشح للتطور بـ «سعة صدر!» واستيعاب للآخر، ولجوء دائم إلى التفاهم والحوار، و «فض النزاعات بالمفاوضات» واستبعاد خيار العنف، بل شطبه أصلا من القاموس، وبسبب هذه «الأخلاق العالية» تراه من المبشرين الدائميين بمبادئ القانون الدولي الانساني وشرعة حقوق الانسان واتفاقية جنيف الثانية (بالمناسبة هو لا يعرف عن الأولى شيئا!) واتفاقية حقوق الطفل! وقد أورثته هذه النفسية ثقافة متبحرة في مسائل حقوق الانسان عموما، والشرائع الدولية المشابهة!
مع كل هذه السيرة الذاتية المسالمة الوديعة، يختزن في أعماقه خوفا وهلعا من أي رمز من رموز السلطة، فهو لا يقوى على التحديق في عيني شرطي، ويهيأ له أنه لو استجمع شجاعته كلها (إن كان ثمة شجاعة في داخله!) ونظر إلى وجه شرطي مليا، لأورده هذا «التحدي!» مهاوي الهلاك، لذا يتحاشى النظر إلى اي من رموز السلطة، حتى ولو كان نافخ قربة في موسيقات الأمن العام، مع احترامه الجم للموسيقى وكل ما يمت إلى الفن بصلة!
مخاوف الرجل الوديع من السلطة ونفوذها الواسع، لم تقف عند هذا الحد، فقد تسببت له هذه «الأخلاق الرفيعة» بسلوك طريق السلامة، فلم يتخلف يوما عن دفع فاتورة هاتف أو كهرباء، ولم تحدثه نفسه يوما بالوصول إلى دائرة حكومية إلا برفقة «قبضاي» من أصدقائه، بل إنه يؤثر أن لا يتجول كثيرا بسيارته، كي لا يرتكب أخطاء مرورية تعرضه للمساءلة، لهذا فإن عدد الشوارع التي يعرفها محدود جدا، وهو يحفظها بكل تفاصيلها وشواخصها المرورية، وحين يقترب من إشارة مرور، يخفض من سرعته المنخفضة أصلا، كي يعطيها المجال لاختيار اللون الذي تريده، حتى وإن كانت خضراء، فلا يدري أحد متى تتحول إلى اللون البرتقالي فما بالك بالأحمر! وشعاره الدائم في الحياة: (لا تنم بين القبور ولا تحلم أحلاما مزعجة)، ولو استطاع ألا ينام أبدا في فراشه حتى لفعل، فلا يضمن أحد نوعية الحلم الذي سيداهمه!
الغريب –بعد كل هذه الاحتياطات الأمنية!- أن صاحبنا دائم النظر في نوع خاص من الاعلانات الحكومية، وهي تبليغات المحاكم! فهو يكاد لا يفوت إعلانا في صحيفة يدعو «المتهم الفلاني مجهول محل الاقامة!» إلى المثول أمام القاضي في قضية ما، دون أن يقرأه ببالغ الاهتمام، فهو مهيأ دائما لقراءة اسمه يوما في إعلان ما كمتهم، ولا يريد أن يحسب أحد أنه فار من وجه العدالة، حين سألته عن سر اهتمامه بهذا اللون من الاعلانات، قال لي: ما حدا بعرف، يمكن أكون ارتكبت مخالفة قانونية ما دون أن أدري، الاحتياط واجب، يجب أن اكون مستعدا لذلك اليوم العصيب، ويضيف: أنا مثلا أجهل محتوى اتفاقية جنيف الاولى، ألا يمكن أن أرتكب حماقة تخالف أحد بنود هذه الاتفاقية اللعينة؟!