لو أن مشروع القرار الفلسطيني / العربي الذي تقدمت به الأردن، العضو العربي في مجلس الأمن، كان قد مر أول من أمس، لكان ذلك بمثابة أجمل هدية يمكن أن يقدمها "سانتا كلوز" العالمي للشعب الفلسطيني الذي ما زال ينتظر منذ عقود طويلة لحظة الانعتاق من نير الاحتلال الذي ما زال يتسبب له بكل الويلات التي يمكن أن يتعرض لها بشر.
نقول لو، ولو أداة امتناع لامتناع، فحتى لو أن نيجيريا، العضو في المؤتمر الإسلامي كانت قد صوتت مع مشروع القرار، لكانت الولايات المتحدة، التي صوتت ضده، إلى جانب أستراليا، قد استخدمت حق النقض (الفيتو) لتحبط مشروع القرار.
على كل حال تجرأ الفلسطينيون مرة أخرى، وتجاهلوا واشنطن، وتقدموا إلى ساحة القتال بكل شجاعة، ثم أكملوا ليلة أول من أمس بتوقيعهم على مجموعة من المعاهدات والاتفاقيات الدولية، وفي مقدمتها محكمة الجنايات الدولية، في اليوم التالي، ما أثار حفيظة الولايات المتحدة مع إسرائيل، لتعلن الأخيرة عن اجتماع حكومتها للبحث في الرد على الإجراء الفلسطيني.
لا أحد يدري كيف أن القدر قد حدد اليوم الأول من كل عام ليكون مناسبة انطلاقة حركة فتح، هل كان مؤسسو الحركة قد تعمدوا هذا الأمر، أم أن القدر قد رتبه، المهم، أن فتح ببلوغها سن الخمسين، تبدو حركة سياسية قد اتسمت بالنضج السياسي، وحيث إنها تعتبر ملكا للشعب الفلسطيني بأسره، وليس فقط ملكا لأعضائها، فإن هذه الذكرى الذهبية، تفرض الحاجة للقيام بمراجعة لمسيرة تلك السنين الطويلة، بهدف تصحيح المسار، إن كان هناك انحراف أو تصحيح الأخطاء إن كانت هناك أخطاء، أو تعزيز الوجهة إن كان هناك اتفاق أو إجماع على أن الوجهة إنما تسير في الاتجاه الصحيح.
يبدو أنه من الضروري إعادة التأكيد على الأهمية القصوى لحركة فتح بالنسبة للشعب الفلسطيني، على اعتبار أنها أهم منجز حققه على مدار العقود الخمسة الماضية، وعلى اعتبار أنها العمود الفقري للمشروع الوطني، وأنها تشكل الطريق المباشر والمختصر لفلسطين منذ أن أعلن عنها قبل خمسين سنة.
كذلك لابد من التذكير بأن فتح، كانت أول الرصاص وأول الحجارة، وأول سلطة وطنية، وأنها بذلك شكلت الإطار المركزي لحركة التحرر الفلسطيني، ومن ثم شكلت المرحلة الانتقالية (بين حركة التحرر والحزب الحاكم)، فهي منذ أوسلو، وتشكيل السلطة كحكم انتقالي، وقبل أن تصبح حزبا حاكما في بلد مستقل، تكون فتح، قد مرت بأكثر من مرحلة تطلبت منها، تغيير برنامجها، وليس فقط الاكتفاء بعقد مؤتمراتها الحركية.
فتح التي كانت أول فصيل فلسطيني يمارس الكفاح المسلح، ثم تأخذ على عاتقها الجمع بين العمل العسكري والعمل السياسي، لتشكل بذلك جوهر حركة التحرر التي تسعى لتحقيق النصر، دخلت بعد أوسلو، مرحلة أخرى، جمعت فيها بين سمات حركة التحرر وبين حزب السلطة الحاكم، وليس هنا المجال للخوض في تفاصيل الفواصل بين هذه السمة وتلك، وكان ذلك سببا - ربما - للخلاف مع كثير من الفصائل، بل وحتى في ظهور الجدل الداخلي، حين تفرغ بعض قادة فتح للعمل الحركي، فيما تفرغ بعضهم للسلطة، بما في ذلك، العمل في أجهزتها الأمنية، وصولا إلى ما قرره المؤتمر السادس من عدم وجوب الجمع بين الموقع القيادي الأول في الحركة وبين مقاعد حكومة السلطة.
وكانت فتح أول من أطلق الحجارة، بحكم حجمها ومكانتها وموقعها، حيث قادت وأشرفت على الانتفاضة الأولى، وصولا إلى فرض الوجود الفلسطيني في مدريد ومن ثم في أوسلو.
فتح تبدو مثل طائر الفينيق، وربما كان لإعلانها الثاني علاقة بهذا الأمر، والذي كان ردا على هزيمة العام 67، فما أن تتعرض الحركة ويتعرض الشعب الفلسطيني معها إلى محنة، حتى تجترح المعجزة بالرد والنهوض مجددا.
حدث هذا بعد عامي 70/71، وبعد العام 82، وفي العام 87، ويحدث الآن، حيث يتضح تماما بأن فتح ما زالت باقية رغم كل محاولات كسر شوكتها، إن كان عبر المعارك الخارجية المتعددة: العسكرية والسياسية والمالية، أو عبر المعارك الداخلية التي تدار بأصابع وأيدٍ خارجية.
لكن ما لا بد من ملاحظته أن فتح التي قادها رجلان - حتى الآن هما: الزعيم الفلسطيني التاريخي ياسر عرفات، ومهندس السياسة الفلسطينية محمود عباس، كان الأول يختصر كل سمات مرحلة التحرر الوطني، فيما الثاني يكاد يلخص مواصفات الدولة الفلسطينية القادمة.
ربما كان من الأفضل لو أنه تم تحديد الفاصل / القاطع بين المرحلتين، وذلك العام 94، ولكن وحيث أن ذلك قد تأخر نحو عشر سنين، فلا بد الآن من البحث جديا في كيفية صياغة برنامج الحركة على أساس مقطع مؤقت أو انتقالي، يجمع بين فتح حركة التحرر وفتح حزب الدولة، ومقطع دائم، يحدد كيفية بناء الدولة الفلسطينية القابلة للحياة بمواصفاتها العصرية وليس بمنحة أميركية، حتى تبقى فتح والتي كانت أول فصيل ينتقل إلى داخل فلسطين بالكامل، الطريق الأكيد والمباشر والذي لا طريق سواه، إلى فلسطين !