بات واضحاً للعالم ان العنف ومعه التمييز وانعدام العدالة يشكلون حاضنة دافئة وخصبة لنموه وترعرعه، فالعنف يولد العنف المضاد، هذه هي المعادلة. ويضاف الى ما سبق الفقر والبطالة ومشاعر الاحباط التي يستغلها الكثيرون ممن ينقمون على مجتمعاتهم وعلى الانسانية ويجعلون من هذا مبرراً لتسويغ افعالهم الارهابية ومعتقداتهم الفاسدة. والمشكلة ان كثيراً منهم يتصدرون للافتاء باسم الدين ويستعملون القاموس الديني ويلوون اعناق المفاهيم الدينية السمحة كى تبرر افعالهم ومعتقداتهم فيجدون الكثير ممن يستمعون اليهم ويشايعونهم اما كمخدوعين او كناقمين مثلهم يستبد بهم النهم السادي المازوخي.
ولقد ران على امتنا العربية زمان تفرخت فيه تنظيمات ومجاميع ارهابية تمثل أسوأها بالحشاشين والقرامطة الذين مارسوا ابشع انواع الارهاب قولاً وعملاً، فاضعفوا البلاد واغرقوها في بحار من الدم وجعلوها لقمة سائغة للغزاة والمحتلين. وما اشبه اليوم بالبارحة عندما نرى مجموعات تضرب الناس باسم الدين وترتكب بحقهم من الجرائم ما تتقزز منه النفوس فتنزل بقضايانا العادلة افدح انواع الضرر وتقدم منحاً مجانيةً لقوى اليمين الراديكالي المتعصب في الدول المستهدفة لا سيما الغربية كي تنفث غضبها واحقادها على الاسلام والمسلمين، ولكن لماذا نعتب وفى افواهنا ماء ونحن نقتتل ونرى من حولنا القتل والهدم بابشع الصور وبدماء باردة لكننا لا نستطيع السكوت عندما تلصق الممارسات الارهابية زورا وظلماً باسم ديننا الحنيف.
وقد انبرى الكثيرون في الشرق والغرب للمناداة بما اسموه الاصلاح الديني او التجديد في الاسلام، وهذا مصطلح ومفهوم مغلوطان، فالدين بطبيعته اصلاحي ولا يحتاج الى اصلاح وانما يحتاج الى ازالة ما علق بتفسيره من تشوهات والى اعادة النظر في الادوات القديمة للخطاب الديني وتحديثها بما يتوافق مع التقدم العلمي والتقني وتنقيته من الشوائب المتمثلة في الاجتهادات الملتوية والاسفاف في الفتاوى التي يتنطع لها الجاهلون والاتباعيون الكلاسيكيون الذين تعوزهم القدرة على التجدد المعرفي الذي هو والقلق العلمي والفكري من اهم مطالب ثقافة الغد، والذين يفسرون المبادئ والمعارف الدينية حسب ما تقتضيه ميولهم ومعتقداتهم وظنونهم، لكن الذي يجب ان يفهم هنا اعتماد الاساليب والمنطوقات السليمة لتقديم خطاب ديني اسلامي واضح وحقيقي مبني على فهم بحقائق الدين الانسانية والاخلاقية السمحة البعيدة كل البعد عن التعصب والايذاء والغلو والتطرف مع ازالة الترهات التي الحقها بعض من اخذوا بتفسير النصوص الدينية على هواهم تفسيراً سطحياً مغايراً تماماً للمعاني الجليلة التي توخاها الدين.
اما وقد بات الارهاب عالمياً يمد اذرعه الى مختلف الدول وهو ليس مقتصراً على من يدعونه باسم الاسلام بل هناك المنظمات الارهابية المنتشرة على مدى العالم، فالأمر الملح الآن هو تقديم الاسلام للعالم وفق رؤية جديدة وتصحيح الصورة الانطباعية التي اخذها الكثيرون عنه، فلا خلاف على مبادئة الاساسية ولكن لا بد من اعتماد منهج جديد للتعريف به بعيدا عن الرموز والشكليات المصطنعة وتقع المسؤولية في هذا بالدرجة الاولى على الدول العربية والاسلامية.
والارهابيون يعملون وفق تهيؤات فكرية خاصة بهم وان كان فكرهم كما نراه سقيماً ومنحرفاً الا انهم يؤمنون به ايماناً مطلقاً ويعتبرونه الاصلح فهم يعزون القتل والذبح الى موجبات دينية ويحملون الدين جزافاً ما يقومون به من جرائم وارتكابات. ولا بد اذاً من الكشف عن حواضن الارهاب التي تعهدته والتي غذتها عوامل الفقر والبطالة والتخلف والفساد والقهر والاذلال، كما لابد ايضاً من مراجعة نظم التعليم التي خرجت اجيالاً يعاني العديد منها من الامية الثقافية والتخلف المسلكي والجهالة الفكرية. لهذا لا بد من التصدي للفكر الارهابي المريض بفكر سليم ومنطق صحيح، وهنا يبرز دور علماء الدين وفقهاء الشريعة والمتنورين. ولا بد من تبني برامج وآليات ومنهجيات لمكافحة تلك الافكار المسمومة، كل ذلك يتواكب مع استمرار تعزيز منظومة الامن القومي والوطني وجعل الامن مسؤولية مشتركة مع كل مواطن وليس هم الاجهزة الامنية وحدها، والاستعانة بذوي الفكر المستنير من اجل انتهاج سياسة امنية وطنية يمتد فيها مفهوم الامن ليشمل الامن بمفهومه الاصلي ثم قضايا التعليم والعمل والاجتماع والاقتصاد والصحة وغير ذلك كثير مع صياغة عقد اجتماعي جديد يحقق تداول السلطة ويبعد الاقصاء والنفي والتهميش معتمداً الحوار الوطني الجاد والشامل وليس السجال الذي يرمي الى نفي الآخر، فالاصلاح السياسي هو الذي يوفر الادوات التي تراقب عمل السلطة.
وقد اخذ البعض في الغرب كما تقول مجلة Foreign Policy Journal يتساءل عما اذا كان بمقدور الاسلام انتاج «مارتن لوثر» آخر تشبيهاً «بلوثر» الذي اطلق عصر الاصلاح في اوروبا في القرن السادس عشر بمعنى اظهار مصلح كبير يغير مفاهيم ومنطوقات الدين او بعبارة اخرى «عصرنة الدين» باعتبار ان الكثيرين في الغرب يدعون كما يظهر في صحافتهم ان الاسلام لا يمكن تصحيحه وهو بطبيعته عنيف وقاس وغير متسامح وغير قادر على قبول حرية الراي. والحقيقة ان الاسلام ليس بحاجة الى لوثرية بالمنطق الذي نوهت عنه المجلة اعلاه. فهو متحرر ويسير اذا ما احسن فهمه وانقاد اتباعه الى حسن ارشاداته وقيمه الاخلاقية والسلوكية.
هذه الافكار وما ماثلها اخذت تتمظهر في بعض الدول الغربية وبدأ العداء للاسلام او على الاقل التوجس منه ياخذ ماخذه نتيجة لقيام الكثيرين هناك بربطه بالارهاب اما عن سوء قصد واما عن جهالة وتجهيل ومنهم الاعلامي الشهير «روبرت مردوخ» الذي جعل المسلمين جميعاً مسؤولين عن اعمال الارهابيين كما جاء في صحيفة «الاندبندنت» البريطانية الشهيرة. وقد ساعده في هذا تلك العمليات الارهابية التي قام بها بعض المحسوبين على الاسلام من اصحاب الافكار والتصورات السقيمة المتسمة بالفقر المعرفي والخطل في الوعي والرؤى وتكرار مقولات عفا عليها الزمن. وياخذ اولئك على الاسلام تفوهات بعض من يصفون انفسهم او يوصفون بعلماء الدين وما هم بعلماء كاحدهم الذي اعلن في صحف الغرب «الاندبندنت 9/1/2015» بان الاسلام لا يحترم حرية الكلمة وان ما يقوم به البعض منهم من افعال هو مقرر بارادة الله، فالانسان عندهم مسير لا مخير متناسياً قوله تعالى (انا هديناه السبيل اما شاكراً واما كفورا) وقوله (وهديناه النجدين).
كل هذا اللغط في الغرب على الاسلام والمسلمين لم نجد مثله عندما هدمت بيوت الناس على رؤوسهم ولا عندما جرى قتلهم وتشريدهم واغتصاب بلادهم وغير ذلك كثير مما فعله الاستعمار الغربي بديار العرب والمسلمين ولا ادانة الرسوم المسيئة لنبي الاسلام والبشرية. ونحن هنا لا نبرر تلك الفعلة الشنعاء في باريس التي لا تمت للاسلام بصلة وانما الشيء بالشيء يذكر وعسى ان تنفع الذكرى.
واما عندنا في الاردن فالغالبية العظمى الساحقة من مواطنيه ان لم نقل كلهم جميعاً في حقيقة الامر تنفر من التطرف والارهاب وتضاد من يقومون به لا سيما وقد تعرض له بلدنا واكتوى بناره، ونتذكر بالم عندما فجرت مجموعات ارهابية عدداً من فنادق العاصمة فاودت بابرياء رجالا ونساء واطفالاً لم يرتكبوا ذنوباً الا اذا كان فرحهم باعراس ابنائهم يعدة المجرمون ذنباً، لكن ذلك الشكل العاطفي لا يكفي وحده فلا بد من تنسيق الجهود والتوجهات وامتلاك آليات فكرية واجراءات موحدة لمتابعة هذا البلاء ومقاومته وفق تنسيق وتعاون دوليين وهو الذي اخذ يعصف بالعالم لا يفرق بين احد واحد. والدعوة الى حوار وطني اردني شامل يضم جميع الفئات المستنيرة وعلماء الدين ورجاله وجميع طبقات الشعب لتوحيد الجهود والمنظمات والخروج بتصورات واضحة قد باتت من اول المستوجبات.