كتب سعيد حمدان:
أنظار المهتمين بصناعة الصحافة تتجه هذه الأيام للسعودية، لمتابعة أسخن قضية إعلامية تحدث هناك، وترقب ما هي النتائج التي ستسفر عنها. هذه "الحرب" التي أطلق عليها أهل المهنة هذا المصطلح لا تعني السوق السعودية وحدها وإنما صناعة الصحافة في المنطقة عموماً، فالحال من بعضه كما يقولون عندما يكون عن مثل هذه القضية المثارة هناك اليوم. لكن الجديد فيها أن الإعلام السعودي التقليدي المتمثل في أكبر وأشهر الصحف الرئيسية "المحافظة" كسر "التابو" ورفع صوته، ولأول مرة تحدث ملاسنة ورقية بين الرؤوس الكبيرة في هذه المهنة، وبهذه الشدة، واستخدام لغة الهجوم والفضائحية وكشف المستور.
أطلق الشرارة تقرير مدى الانتشار وتراتبية الصحف في التوزيع والمقروئية في المملكة، وهو التقرير الدوري الذي تصدره شركة "إبسوس" والتي يبدو أنها محتكرة للسوق الخليجية عموماً، أو هي التي يؤخذ بتقاريرها فقط في صحف المنطقة وعند شركات الإعلان، والدليل أن الصحف المتصدرة سنوياً تخصص له صفحات كاملة وتستغل نتائجه في إعلاناتها الترويجية. صحيفة "الرياض" التي أغضبها التقرير الذي وضعها في الترتيب الثالث من حيث الانتشار، قررت أن ترد وتكذب ما جاء فيه، فخصصت صفحة كاملة هاجمت فيها بيانات التقرير والشركة المنفذة وحاولت أن ترصد تجاوزات "إبسوس" وبعثرت ملفات قديمة مسكوتاً عنها من قبل، مثل هجوم بعض وسائل الإعلام اللبنانية وشكواها للبرلمان من تلاعب الشركة بنتائج الإحصاءات، واستخدمت أوصافاً مثل: "دكاكين" الإحصاءات ومن يمولها! وقالت إن بعض تقاريرها كانت تسيء للمملكة، كتقريرها الذي وضع السعودية في المرتبة الثالثة للتحرش الجنسي في مواقع العمل والذي نقلته وسائل الإعلام الدولية ومنظمات حقوق الإنسان، رغم أنه لا يوجد فيها اختلاط في العمل. وقالت إنها تنأى بنفسها عن المهاترات، وإن هذه التقارير ليست سوى "نموذج لبيع متخيل الوهم وتزييف الأرقام لمن يدفع".
صحيفة "الجزيرة" التي تقدمت على "الرياض"، واحتفت بهذا التقرير الذي قال لها ذلك، رأت أنها المعنية، فدافعت عن نجاحها وهاجمت الجريدة العريقة التي لم تستطع أن تتجدد وتحافظ على مكانتها، وأنها افتقدت الموضوعية في ردها كما كتبت في تعليقها، وطالبتها بالابتعاد عن "الغرور"، واعتبرت أن بيانها مجرد"فقاعات لا تغير من الأمر شيئاً"، وقالت رداً عليها: أن أوزع مجاناً على الطلبة ضمن برنامج رعاية كراسيها في هذه الجامعات خير من جريدة توزعها محطات البترول مجاناً على زبائنها، ونشرت "يافطات" لبعض حملات التسويق لهذه المحطات. وكتبت أن "الرياض" كذّبت وهاجمت التقرير، وهي التي كانت قبل اليوم تستشهد به وتنقل تقاريرها عن هذه الشركة كمصدر "موثوق"، وراجعوا أرشيفكم الذي لا يزال على الموقع.
جريدة "الحياة" دخلت على الخط وخصصت هي الأخرى صفحة كاملة تقول فيها إن التقرير لم ينصفها فتعامل مع طبعة كل منطقة على أنها جريدة منفصلة، مع أن معظم صحف الدراسة الأخرى تقوم بتخصيص طبعات مناطقية ولم يتم تقسيمها، فقامت بإعادة تركيب الرسم البياني بعد أن جمعت أرقام المناطق الثلاث لتحتل هي المرتبة الثانية في قائمة الصحف الأكثر قراءة على مستوى المملكة وحسب أرقام نفس الشركة.
ارتفعت وتيرة الحرب بعد ذلك، وكادت تُنقل فضائياً وتم الإعلان عن ذلك فعلياً، فكان الموعد أن يكون رئيسا تحرير "الرياض" و"الجزيرة" على الهواء مباشرةً، لولا تراجع حدثَ في اللحظات الأخيرة.
الصحف الأخرى والمواقع الإلكترونية الشهيرة، مثل "إيلاف"، شاركت في هذه "الحرب" الإعلامية الساخنة باستقصاء آراء بقية المعنيين، فإدارة الشركة المنفذة للدراسة دافعت عن دقة وحيادية تقاريرها، ووصف أحد المديرين فيها هجوم جريدة "الرياض" بأنه مجرد "فشة خلق".
أساتذة الإعلام أدلوا بآراء أكاديمية في ذلك؛ فقال بروفيسور جامعي متخصص إن مثل هذه الدراسات لا يعتد بها، لأنه لا توجد لها منهجية علمية، فمن هي هذه الشريحة وكم عددها؟!
جمهور الإعلام الاجتماعي في "تويتر" تحديداً وجدوا مادة دسمة للكتابة بين أنصار صحيفة ما أو قراء أخرى، أو الذين يرون أن الصحافة الحالية عموماً بعيدة عن همومهم وقضاياهم المجتمعية وتتصارع من أجل المراكز والأرقام لا على القراء الحقيقيين.
الأهم في "حرب" حجم التوزيع وقراء الصحف في السعودية هو المكاشفة التي حدثت عن وقوع خلل ما في آلية قياس هذا الانتشار، ومدى حيادية الطرف الذي يقوم بذلك. والمطالبة بوجود قناة أخرى أكثر استقلالية، تملك النزاهة العلمية للقيام بمثل هذه الدراسات المتعمقة. فبعض الكتابات المتخصصة كشفت عن ما وراء تقارير الانتشار، وهو قضية سوق الإعلانات وسيطرة طائفة من الشركات المعدودة قد تتبع جميعها لشركة أم واحدة، هي التي تسيطر على سوق الإعلانات الخليجية التي تعد أكبر وأضخم سوق في المنطقة، وإن "إبسوس" ليست سوى إحدى أذرع هذه الشركة كما جاء في تلك التعليقات.
قبل سنوات حدثت في الإمارات مثل هذه الإشكالية، عندما كانت تسيطر على سوق الدراسات البحثية الإعلامية شركة "بارك" وكانت تقاريرها الدورية تحدث مثل هذا اللغط، ولكن تكون مستترة خلف أبواب المؤسسات الإعلامية فلا يشعر بها القراء، وهوجمت مرات وتمت مقاطعتها بعد ذلك من بعض وسائل الإعلام المحلية، ولم يعد يؤخذ بتقاريرها ودراساتها في هذا الجانب تحديداً.
الصحافة الغربية، والإعلام المتقدم عموماً سواء في اليابان أو الهند تجاوزا "أزمة" سرية أرقام توزيع الصحف التي لا نزال نحن في أوطاننا العربية ننظر إليها على أنها تشبه "الأسرار الحربية"، فلا يعرف هذا الرقم إلا أشخاص معدودون في كل صحيفة، وأصبح ذلك الإعلام ينشر الرقم المطبوع من كل عدد على الجريدة نفسها، وكذلك حجم المرتجع، وأوجدت هيئات مستقلة للتحقق من الانتشار.
التحدي ليس كم تطبع، ولكن ماذا تطبع، وما هو المحتوى، والتطوير الذي من خلاله يمكنك أن تزيد عدد القراء ويكبر حجم توزيعك . لكن حجم الانتشار الذي تتصارع عليه وسائل الإعلام عموماً ليس المقصود به في الواقع القارئ والمشاهد، كما يفهم من ذلك ،وإنما هو مجرد "مفتاح" لعالم صناعة الإعلان التي يقوم ويقوى من خلالها هذا الإعلام.
من يتحكم في سوق الإعلانات؟ وما هي آلية توزيع "كيكة" هذه السوق؟ ومن المستفيد الأكبر؟ وهل حقيقة توجد "مافيا"، كما تقول هذه التقارير التي برزت مؤخراً، في قضية الانتشار عند الصحافة السعودية؟ وهل يمكن للجهات الصانعة للإعلام أو التي تتحكم وتصنع السوق الإعلانية، وبعد هذه التجارب والخبرات العملية الطويلة، أن تصنع هي بنفسها آلية الانتشار والتوزيع والاختيار وتدير موازنات الإعلان؟
هذه واحدة من الأسئلة الملحة التي ولدتها حرب الإعلام في المملكة، للبحث في مستقبل أكثر جدوى ومنفعةً لجميع الأطراف المعنية سواء أكانت وسائل الإعلام أو السوق التجارية أو صناعة الإعلان في المنطقة.
*نقلا عن صحيفة "الأتحاد" الاماراتية.
على �} ���P� واحتفت بهذا التقرير الذي قال لها ذلك، رأت أنها المعنية، فدافعت عن نجاحها وهاجمت الجريدة العريقة التي لم تستطع أن تتجدد وتحافظ على مكانتها، وأنها افتقدت الموضوعية في ردها كما كتبت في تعليقها، وطالبتها بالابتعاد عن "الغرور"، واعتبرت أن بيانها مجرد"فقاعات لا تغير من الأمر شيئاً"، وقالت رداً عليها: أن أوزع مجاناً على الطلبة ضمن برنامج رعاية كراسيها في هذه الجامعات خير من جريدة توزعها محطات البترول مجاناً على زبائنها، ونشرت "يافطات" لبعض حملات التسويق لهذه المحطات. وكتبت أن "الرياض" كذّبت وهاجمت التقرير، وهي التي كانت قبل اليوم تستشهد به وتنقل تقاريرها عن هذه الشركة كمصدر "موثوق"، وراجعوا أرشيفكم الذي لا يزال على الموقع.
جريدة "الحياة" دخلت على الخط وخصصت هي الأخرى صفحة كاملة تقول فيها إن التقرير لم ينصفها فتعامل مع طبعة كل منطقة على أنها جريدة منفصلة، مع أن معظم صحف الدراسة الأخرى تقوم بتخصيص طبعات مناطقية ولم يتم تقسيمها، فقامت بإعادة تركيب الرسم البياني بعد أن جمعت أرقام المناطق الثلاث لتحتل هي المرتبة الثانية في قائمة الصحف الأكثر قراءة على مستوى المملكة وحسب أرقام نفس الشركة.
ارتفعت وتيرة الحرب بعد ذلك، وكادت تُنقل فضائياً وتم الإعلان عن ذلك فعلياً، فكان الموعد أن يكون رئيسا تحرير "الرياض" و"الجزيرة" على الهواء مباشرةً، لولا تراجع حدثَ في اللحظات الأخيرة.
الصحف الأخرى والمواقع الإلكترونية الشهيرة، مثل "إيلاف"، شاركت في هذه "الحرب" الإعلامية الساخنة باستقصاء آراء بقية المعنيين، فإدارة الشركة المنفذة للدراسة دافعت عن دقة وحيادية تقاريرها، ووصف أحد المديرين فيها هجوم جريدة "الرياض" بأنه مجرد "فشة خلق".
أساتذة الإعلام أدلوا بآراء أكاديمية في ذلك؛ فقال بروفيسور جامعي متخصص إن مثل هذه الدراسات لا يعتد بها، لأنه لا توجد لها منهجية علمية، فمن هي هذه الشريحة وكم عددها؟!
جمهور الإعلام الاجتماعي في "تويتر" تحديداً وجدوا مادة دسمة للكتابة بين أنصار صحيفة ما أو قراء أخرى، أو الذين يرون أن الصحافة الحالية عموماً بعيدة عن همومهم وقضاياهم المجتمعية وتتصارع من أجل المراكز والأرقام لا على القراء الحقيقيين.
الأهم في "حرب" حجم التوزيع وقراء الصحف في السعودية هو المكاشفة التي حدثت عن وقوع خلل ما في آلية قياس هذا الانتشار، ومدى حيادية الطرف الذي يقوم بذلك. والمطالبة بوجود قناة أخرى أكثر استقلالية، تملك النزاهة العلمية للقيام بمثل هذه الدراسات المتعمقة. فبعض الكتابات المتخصصة كشفت عن ما وراء تقارير الانتشار، وهو قضية سوق الإعلانات وسيطرة طائفة من الشركات المعدودة قد تتبع جميعها لشركة أم واحدة، هي التي تسيطر على سوق الإعلانات الخليجية التي تعد أكبر وأضخم سوق في المنطقة، وإن "إبسوس" ليست سوى إحدى أذرع هذه الشركة كما جاء في تلك التعليقات.
قبل سنوات حدثت في الإمارات مثل هذه الإشكالية، عندما كانت تسيطر على سوق الدراسات البحثية الإعلامية شركة "بارك" وكانت تقاريرها الدورية تحدث مثل هذا اللغط، ولكن تكون مستترة خلف أبواب المؤسسات الإعلامية فلا يشعر بها القراء، وهوجمت مرات وتمت مقاطعتها بعد ذلك من بعض وسائل الإعلام المحلية، ولم يعد يؤخذ بتقاريرها ودراساتها في هذا الجانب تحديداً.
الصحافة الغربية، والإعلام المتقدم عموماً سواء في اليابان أو الهند تجاوزا "أزمة" سرية أرقام توزيع الصحف التي لا نزال نحن في أوطاننا العربية ننظر إليها على أنها تشبه "الأسرار الحربية"، فلا يعرف هذا الرقم إلا أشخاص معدودون في كل صحيفة، وأصبح ذلك الإعلام ينشر الرقم المطبوع من كل عدد على الجريدة نفسها، وكذلك حجم المرتجع، وأوجدت هيئات مستقلة للتحقق من الانتشار.
التحدي ليس كم تطبع، ولكن ماذا تطبع، وما هو المحتوى، والتطوير الذي من خلاله يمكنك أن تزيد عدد القراء ويكبر حجم توزيعك . لكن حجم الانتشار الذي تتصارع عليه وسائل الإعلام عموماً ليس المقصود به في الواقع القارئ والمشاهد، كما يفهم من ذلك ،وإنما هو مجرد "مفتاح" لعالم صناعة الإعلان التي يقوم ويقوى من خلالها هذا الإعلام.
من يتحكم في سوق الإعلانات؟ وما هي آلية توزيع "كيكة" هذه السوق؟ ومن المستفيد الأكبر؟ وهل حقيقة توجد "مافيا"، كما تقول هذه التقارير التي برزت مؤخراً، في قضية الانتشار عند الصحافة السعودية؟ وهل يمكن للجهات الصانعة للإعلام أو التي تتحكم وتصنع السوق الإعلانية، وبعد هذه التجارب والخبرات العملية الطويلة، أن تصنع هي بنفسها آلية الانتشار والتوزيع والاختيار وتدير موازنات الإعلان؟
هذه واحدة من الأسئلة الملحة التي ولدتها حرب الإعلام في المملكة، للبحث في مستقبل أكثر جدوى ومنفعةً لجميع الأطراف المعنية سواء أكانت وسائل الإعلام أو السوق التجارية أو صناعة الإعلان في المنطقة.
*نقلا عن صحيفة "الأتحاد" الاماراتية.