ست وثلاثون ساعة كانت فترة قياسية لإعداد مسيرة الجمهورية، البيت الأبيض برر عدم مشاركة الرئيس الأمريكي بالفسحة الزمنية الضئيلة التي لم تسعفه لوضع خطة الترتيبات الأمنية، ولكن الفرنسيين لم يكن أمامهم خيارات أخرى، فباريس غاضبة ومتوترة ومنفعلة كما لم تكن منذ أزمة أيار 1968، والمسيرة ضرورية من أجل معنويات الفرنسيين التي تلعب دورا حاسما في جميع المفاصل الكبيرة في تاريخهم منذ الثورة الفرنسية.
ثلاثة ملايين مشارك، والتركيزعلى الصف الأول الذي استجمع فيه الرئيس هولاند أصدقاء وحلفاء الشعب الفرنسي، صحيح أن بعضهم لم يكن مرحبا بحضوره مثل رئيس الوزراء الإسرائيلي، وذلك حسب وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها، ولكن الفرنسيين حاولوا أن يخففوا من حدة الاستقطاب الذي يمثله وجوده بدعوة الرئيس الفلسطيني للتواجد في المسيرة، وفي موقع يوازي الحضور الإسرائيلي، وهذه خطوة مدروسة، ففي البداية، أطلق هولاند دعوته للفرنسيين بتجنب الخلط بين الإسلام والإرهاب، وفي النهاية، هو يدرك أي استفزاز يمكن أن يمثله تواجد نتنياهو في المسيرة لنحو ستة ملايين مسلم فرنسي.
هذه الوضعية جعلت جانبا من المسيرة يمضي بروتوكوليا للغاية، وكأنه فرع لمسيرة أخرى تتعلق بالصراع في الشرق الأوسط، وليس بالأحداث الدامية التي شهدتها باريس، أما الجانب الإنساني فكان يمثله القادة الأوروبيين الذين لم يهتموا بالترتيبات الأمنية مثل أوباما ليوصلوا رسالة حول أوروبا الموحدة، أوروبا المستقبل، وكانت تتمثل في حضور الملك عبد الله الثاني بصفته أرفع شخصية تمثل العالمين العربي والإسلامي، وهذه المشاركة كانت تمثل آلافا مؤلفة من المسلمين الفرنسيين الذين تعتريهم مشاعر مضطربة تصحبها مخاوف مشروعة.
نشارك أو لا نشارك؟ كان ذلك السؤال يدور في العديد من الأروقة في أكثر من عاصمة، الوقت ضيق، البعض يفكر في الاعتبارات الأمنية، وآخرون يبحثون عن تسويات بين ضرورة المشاركة، ومواقف محلية ما زالت تتخبط في جدل حرية التعبير وحدودها، واتخاذ القرارات الشجاعة عادة ما يتطلب هامشا من الوقت أوسع مما أراده الفرنسيون بطبيعتهم الانفعالية والعاطفية.
القرار في الأردن يستند على مبادئ مختلفة، فثمة تقاليد تاريخية تحدد إطارا عاما لما هو مقبول أو مرفوض على المستوى الأردني، والملك لديه رؤيته الخاصة في جميع معطيات الأزمة الفرنسية، سواء كانت متعلقة بحدود حرية الرأي، أو الإرهاب العالمي، أو بشكل أوسع، مسألة الصراع الحضاري والثقافي بين الشرق والغرب، ولذلك فالمشاركة أتت ضمن التزام المملكة الأخلاقي بالقضايا التي تمس العرب والمسلمين خاصة، والهموم العالمية والإنسانية عامة.
الأردن اليوم في موقع أفضل وسط مشاكل واضطرابات المنطقة نتيجة تطبيق سياسة متأنية، ولكن دون أن يفقد مرونته تجاه الاستجابة السريعة، وللأردن وجهة نظر يمكن أن تطرح بجدية إذا وجدت الآذان الصاغية، ويبدو أن لقاءات الملك التالية للمشاركة في باريس مع شخصيات مؤثرة في ألمانيا وأسبانيا تندرج ضمن هذا السياق.
الأردنيون بالتأكيد يرفضون المنهج الذي تتبعه جرائد مثل شارلي إبدو، ويعتبرونه تحريضا على الكراهية، ولكن الوعي العام بأبعاد الصراع بين الحضارات والثقافات وحملات التشويه الموجهة للإسلام تجعله يؤكد على ضرورة مواجهة الفكر بالفكر، وليس بالرصاص أو العنف.
من المهم الارتقاء لموقع المسؤولية في هذه القضايا، فحضور الملك والرئيس الفلسطيني فوت الفرصة على نتنياهو لإضافة حادثة رهائن المتجر اليهودي لمخيلة الهولوكوست وإدعاءاته، التي تجرم القوانين الأوروبية التشكيك فيها أو المساس بها، وكان يمكن تحقيق مكاسب أخرى لو امتلكت شخصيات عربية وإسلامية أخرى وازنة القدرة على الاستجابة السريعة للدعوة الفرنسية، فالفرنسيون خاصة يمتلكون ذاكرة جيدة وشهية توثيقية وتأريخية متميزة.
الأردن اليوم تقدم إلى الواجهة بوصفه الجهة التي ظهرت واحتشدت لتمثيل العالمين العربي والإسلامي، معها تركيا ومصر بدرجات تمثيل متفاوتة، ولذلك، فإن على الأردنيين أن يستوعبوا اليوم، وعلى الرغم من صعوبة الظروف، أنهم سيحملون راية الإسلام المعتدل والوجه الحقيقي للمسلمين، وأن النموذج الأردني سيبقى دائما وطويلا مرجعا لمسلمي أوروبا الذين يبحثون عن نموذج مثل ذلك لتعزيز مواقفهم الاجتماعية بعد أن طغت أخبار الشرق المرعب الوحشي والهمجي على العقلية الأوروبية.