«مهزلة مأساوية».. هكذا وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية الاميركية جيفري راثكي، قرار المدّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فَتْحَ تحقيقٍ «أولي» حول جرائم حرب (قد) تكون القوات الاسرائيلية ارتكبتها بحق الفلسطينيين..
موقف الوسيط الاميركي «النزيه» هذا.. غير مُفاجِئ، فهو يأتي «انسجاماً» مع سلسلة المواقف المنحازة لاسرائيل منذ قيامها حتى الآن، ولن يكون هذا الوصف اكثر قسوة وايلاماً من عشرات «الفيتوات» التي اتخذتها الادارات الاميركية المتعاقبة ضد أي قرار يصدر عن مجلس الامن، حتى لو كان يُعامِل اسرائيل بندّية مع المواقف العربية والفلسطينيين (بلغ عددها 52 قراراً)، ناهيك عن السجل «الأخلاقي» الذي التزمته واشنطن بجمهورييها وديموقراطييها، لـِ (وعظ) العالم عن «القيم المشتركة» التي تربطها بتل ابيب، وعن الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط، دون أي اعتبار أو مجرد إبداء أدنى غضب أو عتاب لقادتها الذين لا يتورعون عن «تحقير» ساكن البيت الأبيض او وزير الخارجية او حتى المندوب الاميركي لدى الأمم المتحدة (دع عنك أعضاء الكونغرس بمجلسيه الذين يموّل اللوبي اليهودي حملاتهم الانتخابية) كالأوصاف التي قيلت في حق اوباما وكيري ووزير الدفاع السابق تشاك هيغل..
المدقق في لغة الادانة الاميركية لاعلان المحكمة الجنائية الدولية فتح بحث اوليّ (وهو مرحلة تسبق فتح تحقيق حول جرائم حرب «مفترضة» في الاراضي الفلسطينية، بما فيها الحرب الاخيرة على قطاع غزة التي سمّاها الاسرائيليون.. الجرف الصامد)، يلحظ في غير عناء، أن ادارة اوباما قررت «تبييض» سِجلّها امام الأغلبية الجمهورية التي تتحكم بمجلسي الكونغرس ونيل رضا اليهود الاميركيين وخصوصاً مراكز الابحاث واللوبيات المؤيدة للنظام العنصري في تل ابيب وعلى رأسها «الايباك»، رغم ان مدة وجود باراك حسين اوباما في البيت الابيض آخذة في التقلص (24 شهراً.. لتسليم الرئيس الجديد في 20 كانون الثاني 2017) ورغم ان الانتخابات النصفية للكونغرس وحكام الولايات قد انتهت في غير صالحه وصالح حزبه، ولم يعد لديه ما يخسره، (اذا ما اخذنا في الاعتبار تلك الذرائع والمُهَلْ التي كان يمنحها بعض الذين ارادوا تسويق سياسات اوباما واظهار الرجل, بأنه عازم على ايجاد حل للقضية الفلسطينية، وانه معني بدخول التاريخ من خلال ملف الصراع الفلسطيني الاسرائيلي, وخصوصاً بعدم الدخول في حرب حول البرنامج النووي الايراني, وهي ذرائع وتبريرات ساقطة ومتهافتة، ولا تلحظ التماهي الكامل بين ما يمثله اوباما كممثل للهيئات والمؤسسات والقوى وخصوصاً المجمع الصناعي العسكري النفطي, الذي كان خلف وصوله الى البيت الابيض, رغم لونه ودين والده وأُصوله المتواضعة, على النحو الذي شهدناه في سياساته العدوانية على اكثر من ساحة وازاء اكثر من ملف، سواء في سوريا أم اوكرانيا أم افغانستان, التي فَرَضَ على قادتها الاتفاقية الامنية التي تمنح قواته حصانة ازاء القانون الافغاني, ناهيك عن الدعم غير المحدود لاسرائيل في حروبها ومجازرها ضد الفلسطينيين وبخاصة في قطاع غزة التي شهدت في عهده ثلاث حروب مدمرة، كانت آخرها «الجرف الصامد» التي سقط فيها اكثر من عشرة آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح مع دمار كامل للقطاع ابنية وبنى تحتية..
هل قلنا الجرف الصامد؟
نعم, فالمتحدث باسم الخارجية الاميركية تذكّره «جيداً» في معرض ادانة بلاده لقرار المحكمة الجنائي الدولية, معتبراً ان القرار «مهزلة مأسوية» لان اسرائيل واجهت آلاف الصواريخ الارهابية التي أُطلِقت على مدنييها واحيائها (كذا وبكل وقاحة).. لم يخرج (بالطبع) أحد من حضور المؤتمر الصحفي اليومي للخارجية الاميركية ليسأل المتحدث باسم الوزارة عن عدد الاسرائيليين «المدنيين» الذين سقطوا في هذه الحرب، وبالتأكيد لم يجرؤ أحد على الاستفسار عن عدد الاحياء والمنازل التي دمرت في اسرائيل «العزيزة»!
لافت على نحو خاص أيضاً، أن التعبيرين اللذين استخدمهما الاميركيون والاسرائيليون كانا اقرب الى التطابق سواء في التنديد والادانة أم في الوصف حيث قالت اسرائيل: إن القرار «مُخزٍ» فيما السيد «الأبيض» الاميركي، سار على دربه بالقول أنها.. مهزلة مأسوية.
هل ثمة افلاس سياسي واخلاقي اكبر من هذا الذي تظهره الادارة الاميركية؟ عندما تُحْبط قراراً في مجلس الامن لوضع جدول زمني لانهاء الاحتلال الاسرائيلي عبر الضغط والتهديد كي لا يحصل على الاصوات التسعة اللازمة لتمريره، في الوقت ذاته الذي هددّت فيه باستخدام الفيتو في حال حصل عليها, ثم لاحقاً تخرج على العالم لتقول: أن السلطة الفلسطينية ليست «دولة» كي تحصل على عضوية المحكمة الجنائية الدولية، ولا تخجل عندما تقول في معرض رفضها قرار المحكمة, ان اسرائيل هي الضحية والفلسطينيون هم الجناة والقتلة؟
بالمناسبة: اميركا واسرائيل لا تحوزان عضوية المحكمة الجنائية الدولية نظراً لسِجلّهما «المخزي» في القتل والمجازر.. والارتكابات.