يبدو قطاع غزة كمسلسل تراجيدي حلقاته لا نهاية لها، يشارك في إخراجه وإنتاجه أطراف كثيرة ما بين الداخل والخارج.. ابتداء من الاحتلال - السبب الرئيس في هذه المأساة منذ العام 1948 وحتى اليوم - مروراً بأطراف فلسطينية غرقت في أنانية مصالحها.. وصولاً إلى دول عربية تصب زيتها ونفطها على نيران الانقسام فتزيدها اشتعالاً كلما اعتقدت أن النيران قد خمدت.
في مقالة له بصحيفة «معاريف» يتبجّح الكاتب يوسي أحمئير بأنه لا ينظر بعين الإنسانية أو الشفقة إلى أولئك الغزيين الذين دمرت بيوتهم بشكل جزئي خلال عدوان دولته، ويقول: «إن الصور تظهر بيوتاً مدمرة جزئياً، نوافذها مغطاة بالبطانيات والشراشف تجنباً للبرد والأمطار، حيث لا يوجد لهم ملاذ آخر، ليس في قلبي شفقة عليهم».
ما صرح به الكاتب الإسرائيلي لا يعبر عن رأيه ومنطقه فحسب وإنما عن شرائح واسعة وأغلبية مطلقة من المجتمع اليهودي في إسرائيل تحمل الأفكار نفسها بل وأكثر تطرفاً منها.. فهي لا ترى أكثر من أن العربي الجيد هو العربي الميت.. وهي مقولة متوارثة في هذا المجتمع العنصري، ولكن لماذا تركنا غزة تلعق جراحها الدامية ليل نهار، ولماذا يواصل أكثر من مليون ونصف المليون مواطن دفع ضريبة الحصار والعدوان والإفقار والموت البطيء من أجل مصالح شخصية وحزبية؟ ولماذا كلما تفاءل الأهالي بانقشاع ظلمة القهر والعدوان، نرى البعض يدفع القطاع دفعاً نحو البقاء في هذه الدائرة السوداوية المغلقة؟
منذ الإعلان عن اتفاق المصالحة الأخير... لم نشاهد تغييراً حقيقياً في مجريات الأمور بل مظاهر تجميلية لكسب مزيد من الوقت وإبقاء الحال على ما هو عليه لتحقيق الأوهام!.
منذ البداية طالبت الجماهير بمصالحة ووحدة وطنية حقيقية تعيد صياغة الواقع أو سياسة الأمر الواقع التي فرضت قهراً على القطاع، إلاّ أن الحقيقة كانت عكس ذلك، فالمصالحة تعني إبقاء الحكم على ما هو عليه وإن بشكل غير مباشر.. فهل مثلاً حكومة الوفاق الوطني قادرة فعلياً على ممارسة الحكم في قطاع غزة، أم أن الحال هو كما كان عليه قبل سنوات؟
رأى البعض أن المصالحة هي أن تتحمل الحكومة الأعباء المالية فقط، وفي حال رفضها فالبديل توجيه الرأي العام ضدها لتحميل الحكومة المسؤولية على الرغم من أنها لا تحكم.
ولعلّ قرار كتلة التغيير والإصلاح التابعة لحركة حماس عقد جلسات المجلس التشريعي في غزة محاولة للارتداد وإعادة الأمور إلى سابق عهدها. كما أن تهديدات البعض بالسيطرة على القطاع من جديد بحجة عدم قدرة الحكومة على القيام بدورها ومهامها في القطاع، يعيد إلى الأذهان أقوال قادة في حركة حماس بأن الحركة قادرة على إعادة السيطرة على قطاع غزة في أقل من 24 ساعة.. إذا لم تتحقق أهداف الحركة من هذه المصالحة؟!
كما أن محاولات البعض فتح حوارات داخلية في القطاع بين أجسام وكتل تدور في فلك حماس من أجل خلق قيادة بديلة تحت مسمى إنقاذ الأهالي من الأوضاع المأساوية في ظل تقصير الحكومة، هو تعبير حقيقي عن هشاشة هذه المصالحة من خلال ما نشاهده من إفرازات على أرض الواقع.
إن الخوف الحقيقي هو أن يجر البعض قطاع غزة إلى نقطة اللاعودة، أو من خلال تحقيق المفهوم الإسرائيلي للدولة الفلسطينية الذي يعني غزة فقط .. ومن لم يتمكن حتى الآن من التنبؤ بهذا الوضع فهو يغمض عينيه ويقول أنا لا أرى.
مشهد آخر من مشاهد المأساة في القطاع هو دور اليسار الوطني الذي يحاول أن يقف في منتصف الطريق.. ويقول أنا لست مع هذا الطرف أو ذاك، ويحمل المسؤولية ويحذر ولكنه في الحقيقة مازال عاجزاً عن تقديم رؤيا وحل يساهمان في إخراج القطاع من الظلمة والانهيار.
غزة بحاجة إلى حراك فعلي قبل أن تتحطم المصالحة الهشّة.. وتعود إلى مفهوم الدولة المستقلة والتي ربما حينها سيقبل الاحتلال الإسرائيلي أن يمنح لها مزيداً من الغذاء وتسهيل بعض الخدمات في مقابل الهدوء التام!.