بعد الهجوم الارهابي الذي استهدف صحيفة تشارلي إيبدو في باريس وأسفر عن مقتل اثني عشر شخصا بينهم رئيس التحرير واربعة من رسامي الكاريكاتير فيها، غرق العالم في طوفان من المقالات والتصريحات والتعليقات التي حوت كّماً كبيراً من تحليلاتٍ تباينت بين الحقيقة ونظرية المؤامرة، واستنتاجاتٍ مختلفة تكهنت بمصير قاتم للمسلمين في اوروبا بانطلاق الفكر اليميني ليأخذ فرصته الذهبية في سن قوانين عنصرية تضيّق على الحريات العامة، كما انتشرت الاقاويل والتهديدات حتى طالت المعتدلين واتهمتهم بالتواطؤ أو القبول الضمني بما جرى بدافع احقاد دينية تاريخية ! وقد علق على هذا التخبط وزير خارجية فنلندا Erkki Tuomioja اثناء نقاش مع الصحافة الفنلندية بقوله (إذا سخرتَ من السود فانها العنصرية، واذا سخرتَ من النساء فانها الشوفينية، واذا سخرتَ من اليهود فانها معاداة السامية، أما السخرية من الاسلام فهي حرية التعبير)..
أما ماراق لي قراءته، وسط هذا الفيض وكان الأقرب الى ما كنت افكر فيه فهو ما كتبه المفكر الاميركي الكبير ناعوم تشومسكي على موقع ICH بتاريخ 20/1/2015 بعنوان (اعتداءات باريس تفضح نفاق الغضب الغربي) فقد انتقد باسلوب لاذع ما جاء على لسان رئيس وزراء فرنسا مانويل فالس حين صرح (باننا في حرب ضد العقيدة الجهادية الاسلامية وضد الاصولية الاسلامية وضد كل شيء يهدد بتدمير مبادئنا في الاخاء والحرية والتضامن..)!
ولكي يؤكد تشومسكي ان غضب الغرب دفاعاً عن حرية الاعلام هو مجرد نفاق قام بسرد العديد من الوقائع المعاصرة البشعة التي تؤكد إرهاب الغرب بالاعتداء على وسائل اعلام الآخرين، كقصف وتدمير محطة الاذاعة والتلفزيون في يوغوسلافيا عام 1999 من قبل قوات الاطلسي، والهجوم الشرس الذي شنه الجيش الاميركي على الفالوجا واقتحم مستشفاها الكبير بحجة أنه كان يعلن عن اعداد الضحايا العراقيين، وقتْل الجيش الاسرائيلي لعدد كبير من الصحفيين في عدوانه الأخير على غزة عام 2014.
ورداً على ما قاله اسحق هيرتزوغ رئيس حزب العمل الاسرائيلي والمنافس الاول لنتنياهو في الانتخابات القادمة من أن الارهاب إرهاب واحد قال تشومسكي (بل هنا بالتأكيد ارهابان، ارهابنا مقابل ارهابهم).
كما ذكّرنا تشومسكي بما كتبته النيويورك تايمز إذ وصفت اعتداءات باريس بصراع الحضارات لكن مجلة التايم عدلت هذا الوصف في مقال اناند غريداراداس (لم تكن قط حرب حضارات لا الآن ولا في الماضي لكنها حرب من اجل الحضارات).
لم يعلق تشومسكي على بعض كتّابنا لانه لم يقرأهم ولم يعلم بأنهم مضوا في محاولة تفسير خطيئة إرهابنا الى حد التورط في تبريره وتلمّس الاسباب المنطقية (!) التي ادت اليه ولم يعترفوا قط انه ارهاب حقيقي بشع نابع عن فكر معروف تماماً لديهم ولدى العالم باسره، بل انضموا الى الاوركسترا الجاهزة للعزف على نفس الاغنية الخادعة التي تردد بأن كل شيء لدينا صحيح لكن بيننا بعض المضللين والمنحرفين الذين لا يمثلون حقيقة ثقافتنا وموروثنا الفكري..
وبعد.. فاذا كان ارهابهم - ارهاب الغرب - قد تخلص تدريجيا من ثقافته الغابرة وأصبح الآن مدفوعاً بثقافة النظام الاقتصادي القائم على شن الحروب والاحتلال والاستعمار، فان إرهابنا لم يتخل بعد عن الثقافة الغابرة.. أما الارهاب الاسرائيلي فقائم على الثقافتين معاً.