شُلَّت كل يدٍ تزهق روحاً بريئة، ملعون كل إنسان يتنكر لإنسانيته، وتَبَّت كل يدٍ لم تَعفُ عند المَقْدرَه، إن صاحب أي دين أو رسالة لا يدين هذا الإجرام الدموي وحرق الشهيد الكساسبة حياًّ باسم الدين، هو مدان وضالع بالضلالة وفي استحلال دم أخيه الإنسان الذي حرمه الله إلاَّ بالحق كائناً من كان. فالذين يمتشقون اليوم سيف القتل باسم الإسلام، هم قتلة وتجار دم باتوا يفترون على الله والعباد كذباً وزوراً وبهتانا. هؤلاء هم الذين استهدفوا الإسلام والإنسان بجرائمهم الكافرة، فاستهدفوا الأمة في استهداف مصر مثلما استهدفوا مصر في الأمة، وباسم الدفاع عن الإسلام يشنون حرباً على الإنسان تنال من الإسلام والمسلمين وتدعو للظلام، فعن أي إسلام يتحدث هؤلاء الطغاة المارقون المتجردون من دينهم وآدميتهم.
مشهد تلك الأم التي خرجت يوماً على شاشات التلفزة تعلن عن شجاعتها بإرسال ولَدَيْها ليفجرا نفسيهما، ما زال ماثلاً في الأذهان، حين تم استثمار ذلك التسجيل التلفزيوني بأبشع الأشكال المسيئة للشعب الفلسطيني، حيث قدمتها وسائل الإعلام المعادية في الغرب للعالم، ليقولوا لهم أن الفلسطينيين لا يوجد لديهم شفقة ولا رحمة وعديمو المشاعر الإنسانية، فالأم تقتل حتى أبناءها بيدها، ناهيك أن عقلاً بشرياً سوياً لا يمكن أن يتقبل أن أماًّ تفجر فلذات كبدها بيدها مع سابق إصرار سواء باسم الجهاد أو تحت أي مبرر كان.
نعم يا سادتي، اليوم أعترف لكم وبملءِ فِيَّ، أنني كنت أهتز من أعماقي حين أرى سيدة إسرائيلية تبكي طفلها القتيل جراء عملية تفجيرية في القدس أو تل أبيب، مثلما تهتز مشاعري أمام أم فلسطينية تندب ابنها الشهيد برصاص العصابات الاحتلالية، لكن صدقوني أنني شعرت بصدمة لم أشعرها في حياتي وأنا أشاهد إحراق الشهيد الكساسبة بهذه الوحشية الحقيرة، على يد من يدعون الإسلام، إذ ليس من المقبول إحراق أي كائن حي بشراً كان أم حيوانا لأننا بشر من لحم ودم ومشاعر إنسانية، وأعترف أيضاً أنني كتبت يوماً ضد ظاهرة سرقة السيارات الاسرائيلية من داخل الخط الأخضر واختلفت مع من كانوا يرونها حلالاً باعتبارها سرقة من العدو، لأن السرقة انحطاط أخلاقي وقيمي بحد ذاته سيرتد لنحر صاحبه، وهذا ما حصل حين أفلس اللصوص وصاروا يسرقون السيارات الفلسطينية، فالمشاعر الإنسانية والأخلاق وقيمها أفعال تُرى ولكن لا تُشترى.
إن دعوشة الإسلام والمسلمين، ومحاولات هذا التنظيم المجرم المارق، الاستفادة من السياسات الدولية الخاطئة، على أسس ثأرية وردود أفعال انتقامية، على بعض تلك السلوكيات والسياسات، إضافة للممارسات الإجرامية العنصرية الرعناء للاحتلال في فلسطين، لا يبرر الإجرام الداعشي باسم الدين، لأن الأديان جميعها لا يمكن أن تقر ولا تقبل بمثل هذا الإجرام، والتمثيل بالبشر على النحو الذي شهدناه في مقتل الطيار الأردني معاذ الكساسبة، وفي هذا وغيره محصلة واحدة تنتهك حقوق الإنسان وإنسانيته.
إن إجرام "داعش" وغيرها من الحركات الإرهابية، التي تستظل بعباءة الإسلام وتدعي الإسلاموية، وهي تذبح وتحرق تحت أنظار العالم، تحمل في ممارساتها أسوأ وأقذع إساءة للإسلام الحنيف، لا بل وبيدها تشن حرباً مدمرة على الإسلام. وحتى بعض الحركات والجماعات التي تحاول خداع الناس بأن لا علاقة لها بالإرهاب والإجرام الداعشي الأشَرّْ، إن في غزة أو على تخوم مصر، هي في الحقيقة ضالعة به حتى الأذنين، لأن اللاعبين في هذه الحرب الإجرامية المعادية للإنسانية، مكشوفون للعلن بكل ألوانهم وأطيافهم، وذلك بأفعالهم النكراء، بصرف النظر عما يدعون. نحن نطالب القوى الدولية بتغيير نظرتها لنا ولمصالحنا الحيوية بعين العدالة، لكن علينا أن نتكاتف لمواجهة هذا الإجرام الجاهل والضال والجالب لنا العداوة وسوء الصيت، وكبح جماح هذه المجموعات الضالة التي جلبت الدمار للناس والمنطقة برمتها، حتى نجتثها من جذورها.
إن ما يجري في سيناء وغيرها من قتل وذبح وإجرام، هي تجليات غير معزولة عن سياق وإطار جرائم "داعش" في سورية والعراق، ولا عن جرائم القوى الظلامية الأخرى في ليبيا. لكن في مطلق الأحوال لن يكون بمقدور الحكومة الإسرائيلية وداعمي سياساتها العمياء، أن يكونوا جزءاً حقيقياً من المعسكر المعادي لـ "داعش"، سيما بعدما صرح أحد الحاخامات "أن داعش هي نعمة وأن الرب بعثها لحماية إسرائيل"، وإن أرادوا فعلاً أن يكونوا جزءاً أصيلاً وليس مزيفاً من هذا المعسكر، فإن عليهم أن يكفوا أولاً عن اعتداءاتهم المستمرة على حقوق شعبنا في أرضه، والتي تقربهم لمعسكر أمثال "داعش" أكثر مما تقربهم لمعسكر السلام والحرية إن كانوا صادقين. فالسلوك والممارسة على الأرض هي أكبر برهان على إثبات الهوية السياسة لأية قوة ما إذا كانت في معسكر الحرية والسلام أم معسكر الإجرام. لكن جزءاً من محاربة "داعش" هي أولاً تعديل السياسات الخاطئة والظالمة بحق الشعوب وجعلها أكثر عدالةً واعتدالاً، وأن ينهضوا بمعسكر الحرية والسلام على مستويَي المنطقة والعالم عموماً، ففي ذلك سيكون سحب البساط من تحت أقدام "الدواعش" ومن تحت أقدام المتطرفين والمجرمين سواء في إسرائيل وغير إسرائيل.
إن "داعش" وأخواتها من تجار الدم والدين في السياسة، يبرأ منهم الإسلام والمسلمون والإنسانية جمعاء، ويتنافون مع أفعالهم الإجرامية وهم يستحلون دماء الناس رخيصة ويمثلون بهم أحياء، فعندما يستحلون دماء الناس، ويصبح القتل عندهم هدفاً بحد ذاته، فإن صاحبه يخرج عن دين الله والخلق الإنساني القويم معاً.
هؤلاء القتلَة الجَهَلَة، هم الهَجمَة المرتَدَّة على الإسلام والمسلمين وبني الإنسان، والذين يسجلون أهدافهم القاتلة في شباك الغلابا والفقراء والناس الآمنين والمؤمنين من كل دين.
نعم يا سادتي هؤلاء هم الجَهَلَة الذين تعصبوا لجهلهم وشوهوا الصورة الحقيقية للإسلام بأفعالهم وجعلوا العالم يعتقد أن هذا هو الإسلام.
فالداعشية تصنف اليوم كالحروق في خطورتها، درجة أولى أو ثانية أوثالثة، لذا فإن من أحرقوا الطفل المقدسي محمد أبو خضير حياً في تموز الماضي، هم صورة مسخ عن هؤلاء الجهَلَة المجرمين، والحِمسان الذين مثلوا بجثة الشهيد سميح المدهون بعدما سَحَلوه في انقلابهم على غزة وفجروا رُكَبَ الشباب متسببين لهم بإعاقاتٍ متعمدةٍ دائمة، والإخوان الذين قتلوا الجنود المصريين في رمضان وهم صيام بدم بارد، يحملون بالتأكيد درجة من درجات الداعشية المجرمة، وهم من مدرسة الإجرام ولا صلة لهم بالدين ولا الإنسانية الحقَّه.
في العصور الوسطى كان رجال الدين يحرقون العلماء والفلاسفة، لأنهم يشكلون خطراً على سلطتهم ونفوذهم السياسي المحمول على جهلهم وفكرهم الأعمى وضلالهم المجرم باسم الدين، وها هو تاريخ الإجرام والحرق باسم الدين وذات الفكرة يعيد نفسه على يد "داعش" وأخواتها، وبالتالي فإن كل من يتستر وراء الدين يخفي تحت عباءته إرهاباً وإجراماً يجب محاربته واجتثاثه ودمه حلال على كل إنسانٍ إنسانْ.