لا يمكن إغفال الجانب الشخصي في القضايا الحياتية والمواقف العامة، فكثير من المواقف العامة انقلبت بعد موقف شخصي وهذا لا يُعيب، فهناك من أطلق مبادرات للحد من خطورة حوادث السير بعد فقدانه عزيزا في حادث سير، وموقف الشارع الامريكي من المشاركة في الحرب على العراق بدأ ينكمش تأييده بعد اطلاق ام مكلومة بولدها مبادرات للانسحاب من العراق لانها ليست حربهم، وهناك الكثير من الدلائل والاشارات التي يمكن التقاطها لتعزيز هذا الرأي، فليس بالضرورة ان نحتاج الى حدث جلل كي نراجع انفسنا ومواقفنا حيال قضية كبرى او صغرى .
في العقل العربي الاسلامي نحتاج الى مواقف على شكل انفجار حتى نقيّم مواقفنا او نعاود قراءتها بعين المنطق لا بعين اللحظة على اهمية القراءة اللحظية شرط توافقها مع الهدف الابعد او الهدف الاستراتيجي، وحدث استشهاد معاذ كان انفجارا بالمعنى السياسي والاجتماعي، فهو اعاد الاعتبار لمفاهيم كثيرة ظننا انها زالت او تلاشت، واسترددنا جيلا جديدا ابتعد عنا مسافات إما بالغربة الذهنية الاجتماعية او بالاغتراب المعرفي والثقافي، فهذا الجيل وجد بطله او ايقونته الوطنية كما وجد جيلنا ذلك في وصفي التل وجورج حبش وحابس المجالي وياسر عرفات، وهذه قيمة يجب المراكمة عليها والبناء على مداميكها .
الانفجار الكبير الذي احدثه استشهاد معاذ، فتح الباب لظاهرتين تحتاجان الى مواجهات عميقة وصلبة مبنية على الفكر المصحوب بالارادة لضمان الاستمرارية، فظاهرة الولوج من محاربة التطرف الديني الى محاربة الفكر الديني والدين نفسه، ظهرت بجلاء وخصوصا في الفكر الديني الاسلامي الذي ينعكس على الاتباع بأشكاله الثلاثة كما في كل الدنيا، فهناك مسلم اقرب الى التفريط واخر الى الافراط وثالث الى الاعتدال وهذه لا تحتاج الى اختراع العجلة من جديد، والحرب على هذه المستوى تحتاج الى مفكرين مسنودين بإرادة التنفيذ دون ابطاء او خوف وبوجود مؤسسات او حوزات ذات ديمومة واستمرارية ودعم وليس فزعة او لحظة .
واول الخلل ترك المعتدلين او اصحاب الفكر التنويري الوسطي أسرى المفرطين والتفريطيين، فكثير من المؤسسات الفكرية والسياسية جاملت اصحاب الصوت العالي والفكر الافراطي على حساب الوسطيين والمعتدلين، وتركت لاصحاب الصوت العالي المجال لمخاطبة غرائز الرأي العام والنفاذ من مواطن اختلال المؤسسات الرسمية اليهم وتراخت او استكانت لشراء رضاهم بفسح المجال لهم للاستئثار بالخطاب والادوات الشعبية وسوقَتَهم على حساب المعتدلين، وكذلك تركت المجال ولا اقول تحالفت مع اصحاب الفكر التفريطي ودعاة الحداثة الخاوية من اي مضمون تنويري لواقع المجتمع الاردني والعربي عموما، الذين فهموا الحداثة والمواكبة بالاحتفال بعيد الالوان والبيجاما بارتي والهوب بوب .
اول المواجهة ساحة الفكر والابتعاد عن مناقشة النتائج لقراءة الاسباب، وابرز الاسباب الاعتداء الآثم على التيار الوسطي والتنويري واغلاق باب الاجتهاد وتكفين احياء علوم الدين والإبقاء على قاعدة ما تركه الخلف يكفي للسلف، فسقط السلف في بوابة السكونية الفكرية قابلا بما ورثه عن السلف الصالح، فصار التقدم هو العودة الى الوراء بدل التقدم الى الامام، كذلك امعنت القوى التفريطية السياسية في اقصاء المؤسسات الدينية الرسمية والحقتها بأجهزتها البيروقراطية فصارت المؤسسات الدينية مؤسسات خدماتية مثل البرق والبريد والهاتف والمياه والكهرباء فاتحة المجال لكل دعيّ او مهزوز ليملك ناصية الفتوى وصارت البرامج الدينية التوعوية تكرارا صالحا لكل زمان ومكان وتحولت خطبة الجمعة الى درس بين صلاتين .
استشهاد معاذ حدث تاريخي له ما بعده، ولعله الفرصة التي كنا ننتظرها للخلاص من سكونية الحالة الفكرية على جبهة الدين واعادة احياء علومه بدل ترك المضمار للحالمين بالقضاء عليه وهذا يثري التطرف ويثري الخواء الروحي على حد سواء فيصبح المجتمع اسير المحبسين التطرف والتفريط .