هي الجائزة الكبرى دائماً, هكذا كانت «مصر» منذ الازل وستبقى واسطة العقد العربي – والاسلامي بالطبع – اذا ما سقطت أو أُسقِطت أو حُيّدَتْ, فإن الموازين تختل والمعادلات تنهار وينتصر الاعداء والمتربصون واتباعهم.. في المنطقة.
قد يطول انتصارهم وتتعمق «هزيمتنا», وقد يظن الغزاة والمتآمرون ومَنْ لف لفهم, انهم بذلك قد ضمنوا لمخططاتهم النجاح وضمِنوا لهيمنتهم الديمومة تحت «وهم» أنهم اطاحوا طموح الامة, وأهالوا التراب على حلمها القومي في الحرية والاشتراكية والوحدة, وبددّوا كل آمال شبابها وأسلموهم للكآبة واليأس والاغتراب.
فعلوا ذلك في مصر الناصرية, التي نجحت في «لمّ» شتات هذه الامة وايقظت فيها مشاعر العزة القومية والفخر بالعروبة وتاريخها المجيد, وفي الاساس, اليقين بأن هذه شعوب الامة أن تواجه الاعداء وتنتصر عليهم.. لم تكن الشعارات التي رفعها جمال عبدالناصر هي التي جذبت إليه تأييد الغالبية الساحقة من الجماهير العربية, بل اقتران أقواله بالأفعال وخصوصاً في تقديم الهموم القومية على تلك الهموم القُطْرية الضيقة والانعزالية, لكن المؤامرة كانت أكبر وأشمل وأكثر عمقاً مما يمكن للمرء أن يتصوره, وبخاصة في استدراج مصر إلى فخ الحرب في 5 حزيران 1967, وكانت نكسة ترقى بل هي هزيمة موصوفة وجدنا بعدها من يُصلّي «لله», ركعتي «شكر» على هزيمة عبدالناصر (الشيخ محمد متولي شعراوي وزير الاوقاف في عهد السادات, اثناء زيارته للقدس المحتلة), ورأينا شماتة عربية (من أنظمة وجماعات الاسلام السياسي يقف على رأسها الاخوان المسلمون), لكننا شهدنا في الآن ذاته صحوة جماهيرية وانتفاضة قومية, استوعبت دروس الماضي القريب, وتوفرت على رؤية مغايرة, تلحظ في الاساس ما كان يُخطط في الخفاء بصمت واحتراف وبأيدٍ مصرية وعربية ومعادية, لكن حرب الاستنزاف وبروز ظاهرة المقاومة الفلسطينية قلبت مخططات «المُنتَصِرين» من الاعداء وصغار الشامتين.
لماذا كل هذه المقدمة؟
لأن ما يجري الآن في المنطقة العربية وفي مصر خصوصاً, ليس صدفة أو مجرد حدث عابر, بل هو تراكم كمّي ونوعي لما حدث بعد حرب الاستنزاف غير المسبوقة التي شنها عبدالناصر على اسرائيل بعد أشهر معدودات من نكسة حزيران 67, وقبيل اشهر قليلة من رحيله المفاجئ (والمثير للريبة والشكوك كما يجب التنويه) وبروز انور السادات في كامل المشهد المصري, ثم فبركة فِرّية مؤامرة مراكز القوى (15 ايار 71) ولاحقاً (وهذا هو الاساس) تحالفه مع جماعة الاخوان المسلمين وبينهم القطبيون (اتباع سيد قطب) وفروعهم, من المتشددين والمتطرفين وجماعات التكفير والجهاديين, الذين هيمنوا على المشهد المصري واخذوا شعبها رهينة لخطابهم الظلامي وبقوا حلفاء للسادات, رغم توقيعه معاهدة سلام مع «اليهود».. ولم يتخلصوا من «الرئيس المؤمن».. لخيانته, بل لإقامة دولتهم الاسلامية «الموهومة», الى ان جاء حسني مبارك وكان عهداً كارثياً بكل معنى الكلمة، لكن ثورة 25 يناير اطاحت مخلفات نظام السادات «السلطوية» لكنها ابقت على ثقافته الانعزالية وخطابه السياسي، فغرقت مصر مرة في لُجّة الانقسام والفوضى وانعدام الشكوك بين قوى الثورة، ما اتاح الفرصة للمجلس العسكري وحلفائه في جماعة الاخوان المسلمين للإمساك بالمشهد, واخذ مصر الى مربع «الأسلمة» المُعَرّفة أميركياً بأنها الوريث الشرعي «المعتدل» للنظام العربي القديم, الذي انتهت صلاحياته باندلاع رياح الربيع العربي, بدءاً من تونس ولكن وخصوصا منذ الغزو الاميركي البريطاني للعراق في العام 2003 ووضع مبدأ بوش الصغير، بالضربات الاستباقية والحروب الوقائية، موضع التنفيذ, وما تبقى مجرد تفاصيل او هو في عهدة التاريخ الذي لن يُكتب في هذه المرحلة.
الى أين من هنا؟
ما إن نُشر فيديو «داعش» الليبي، حول ذبح «كوكبة» الشباب المصري القبطي بهذه الطريقة المروعة والاستعراضية والمُسْتفِزّة, حتى استعدت حوار قصير لي مع الاب رفعت بدر على هامش مؤتمر محلي حول التطرف انتهى يوم امس، قلت للأب بدر رداً على سؤاله: اذا ما كنت اتوقع اقدام داعش الليبي على اعدام المُختطفين المصريين؟ انني استبعد ذلك, لأنهم اذا امتلكوا عقلاً ولو متواضع السّوِية، فإنهم لن يقوموا باستفزاز مصر او استدراجها الى حرب معروفة النتائج وبخاصة ان مصر تستطيع (ابتلاع) نصف ليبيا انطلاقا من مرسى مطروح الى ميناء سرت في ايام قليلة, هي مسافة «السكّة».. فقط.
لكنني بدوت حالماً, عندما أجبت هكذا بمنطق حساب سياسي بارد، وليس استناداً الى تاريخ وثقافة هؤلاء الظلاميين, الذين ينهلون من معين استخباراتي ويعتمدون في بقائهم واتساع شرورهم, على دول لا تُخفي مساندتها للدواعش اينما كانوا برطانة إسلاموية ذات منشأ اميركي صهيوني, وعلى رأسهم العثماني الجديد.. اردوغان.
هل هم يستنزفون مصر ويستدرجونها لفتح جبهة «اخرى» تضاف جبهة «ولاية» سيناء المتفوحة على مصارعيها وعنفها وعمق ارتباط ارهابييها بدول واجهزة ومنظمات لم تعد خافية على أحد؟
.. يبدو ان الأمر كذلك, والاتي ربما سيكون أعظم.