ليست صدفة بالتأكيد، أن يتزامن إعلان كل من واشنطن وانقرة عن الاتفاق «المبدئي» لتدريب وتسليح مجموعات من المعارضة السورية «المعتدلة»، مع بدء هجوم الجيش السوري على معاقل الارهابيين في ريف مدينة حلب بهدف إحكام الطوق على ما تبقى من الجزء الشرقي الواقع تحت سيطرة المسلحين والذين تمكنوا من الاحتفاظ به حتى الان، كونه يُوفّر لهم طرق اتصال وامدادات مع ريف المدينة الذي باتت قراه وبلداته تسقط تباعاً في يد الجيش السوري واللجان الشعبية التي تسانده.
لم يطرأ اي جديد على «شروط» اردوغان التي حاول فرضها على الولايات المتحدة (ولم يُصبْ نجاحاً بالطبع) كي يكون جزءاً من تحالف محاربة الارهاب او حتى كي يتوقف عن دعم داعش، التي كانت على وشك احتلال مدينة عين العرب (كوباني) السورية، بل هو روّج وبشّر بأن المدينة باتت في حكم الساقطة بيد داعش، وانه «رغم ذلك» لن يحول دون سقوطها ولن يتدخل، وقام بالمقابل بارسال بعض دباباته وقواته الى المنطقة الحدودية المحاذية لعين العرب، كي يمنع أي إمدادات بشرية او لوجستية لمقاتلي قوات الحماية الشعبية (PYD الكردية) بعد ان تحرك كرد تركيا وتظاهروا احتجاجا على موقف حكومة اوغلو مما يجري في كوباني.
انقرة أخيراً.. وافقت على ان تكون إحدى المناطق «المضيفة» للبرنامج الاميركي بتسليح المعارضة السورية «المعتدلة» بدءاً من نهاية شهر اذار القريب، حيث سيتم «تجميع» خمسة آلاف مقاتل معتدل (...) وكأن ميادين القتال تعرف الاعتدال او تمتلك أطرافها ترف «اللعب» البريء، غير العنيف الممارس، بلعب الاطفال والاسلحة البلاستيكية التي يتراشق بها المراهقون.
ليس ثمة تفسير لهذه الموافقة التركية المفاجئة وغير المبررة سياسياً او على الاقل غير المقنعة، قياساً بالتشدد الذي ابداه اردوغان واشتراطه ان يتم العمل على إسقاط النظام السوري، إذا ما أُريد لأنقرة ان تكون طرفاً في التحالف او دولة مضيفة لتدريب المعارضين المعتدلين، الذين لم يعد ثمة إطار يجمعهم او تنظيم يتوفر على حيثية ميدانية او سياسية يمكن ان يتم تمرير مثل هذه اللعبة الخطرة التي تحاول واشنطن وانقرة اللجوء اليها كمقدمة لتدخل عسكري أوسع، بعد أن تَشظّت المعارضات وانهار بعضها وتبخّر غيرها، بما في ذلك إئتلاف خالد خوجة التركي الجنسية، ولم يعد غير ثلاثة تنظيمات يصعب على المتابع تجاهل وجودها، دون أن يعني ذلك بالطبع تساوي قدراتها وإمكاناتها وعديدها، فضلاً عن تحالفاتها أو إمكانية بقائها واستمرارها في ظل الاوضاع الميدانية الراهنة، الآخذة بالتغيّر في تسارع لافت وخطير، ولكن ليس في صالح تلك التنظيمات، وهي جبهة النصرة وداعش والجبهة الاسلامية (دع عنك الجبهة الشامية في حلب المرشحة للهمزيمة والاندثار في وقت قريب، كذلك هي حال حركة «حزم» التي راهنت عليها بعض دول الاقليم).
ولأن الوقت المحدد لتأهيل و»تخريج» هذه الجيوش المقاتلة (ودائما المعتدلة، حتى لا ينسى أحد) يصل الى تسعة اشهر مقبلات، فإن من السذاجة الاعتقاد أن واشنطن وانقرة تراهنان على «وهم» كهذا، قادر على أن يكون بديلاً للتنظيمات الارهابية التي اخترعوها أو صرفوا النظر عن تمويلها ودعمها من قِبَلِ بعض دول الاقليم، أو سمحوا لها بحرية الحركة والاستفادة من التسهيلات الحدودية، وخصوصاً في توفير الاموال لها (فضلاً عن الاسلحة والقَتَلَةِ الجوالين والملاذات الآمنة) عبر الإتّجار معها بالنفط المهرّب والسيارات والمصانع المنهوبة والمُفكّكة، ما قد يؤشر الى أن «الجيش العتيد» لن يكون سوى حصان طروادة لتدخل عسكري سافر ومكشوف، من قبل من لا يزالوا حتى اللحظات يتسلحون بالأوهام ويبنون خططهم واستراتيجياتهم على رمال متحركة ويعيشون في حال انكار موصوفة، لا ترى أعينهم حقائق الميدان وتحالفات الاقليم ومعادلة الاصطفافات التي «قَبَرَتْ» الى أجل غير مسمى، مسألة الغزو البري أو التدخل الجوي في ميادين المعارك، وبخاصة في ظل الحقائق المستجدة وانعكاسات القوة التي يظهرها الجيش السوري عندما يقوم بفتح معركتين كُبريين في وقت واحد، إحداهما مستمرة منذ اكثر من اسبوع في الجنوب (مثلث أرياف دمشق، درعا والقنيطرة) والاخرى بدأت للتو في ريف حلب وعلى تخومها.
موافقة تركيا على تدريب معارضين سوريين «معتدلين»، هي الورقة الاخيرة التي يلعبها هذا الرجل، الذي تتوالى هزائمه الدبلوماسية وتتقلص هوامشه داخلياً وخارجياً، لكنه لا يفتأ التبجح بغطرسة أن زعماء العالم «يحسدونه» (كذا)، إلا أنها ورقة ساقطة وبلا قيمة، بعد التغيّر العميق الذي طرأ على المشهد السوري وتالياً الاقليمي والدولي، مقارنة بما كانت الحال عليه قبل اربع سنوات، عندما كان اردوغان نفسه يكاد يكون صاحب العدد الاكبر و»الاقوى» من الاوراق، وراح يخسرها في شكل متسارع (اقرأ ساذج) ما سيكلفه الكثير.. لاحقاً.