لم نعرف بعد، كيف أمكن للرئيس المستقيل أن يهرب من محبسه المنزلي إلى عدن، ومن هي الجهات التي عملت على تسهيل مهمته، بيد أننا نعرف أمرين مرتبطين بحادثة مهربه ... الأولى، أن الرئيس كان فاوض على خروجه من صنعاء إلى دولة مجاورة، لكن مطلبه قوبل بشرطين اثنين من جانب الحوثيين، الأول، ألا يمارس عملاً سياسياً من منفاه، والثاني، أن يعود إلى صنعاء وليس إلى عدن، إن هو قرر العودة اليمن.
أما الأمر الثاني، الذي نعرفه ويعرفه غيرنا تمام المعرفة، فهو أن وصول عبد ربه منصور هادي إلى عاصمة الجنوب، قد قلب اللعبة في اليمن رأساً على عقب، وأحسب أنه بهربه إلى عدن، وحديثه عن استئناف مهامه الرئاسية، وهو الرئيس المستقيل الذي انتهت ولايته الممدد لها، ولم تقبل استقالته، سيعمل على خلق قطب يمني جديد، يعيد قدراً من التوازن إلى المعادلة اليمنية الداخلية التي اختلت باكتساح الحوثيين لمعظم محافظات الشمال، ومن ثم الإعلان الدستوري والشروع في بناء مؤسسات الحكم الانتقالية.
بانتظار التعرف على قواعد اللعبة الجديدة، آثرت قوى يمنية عديدة، طلب وقف “حوارات الموفنبيك” والتي حققت اختراقاً على حد تعبير الموفد الدولي جمال بن عمر، التجمع اليمني للإصلاح كان أول من قفز من قارب الحوارات، على أن يتمكن من تعزيز مواقعه مستظلاً بعباءة الرئيس وشرعيته، وهو الذي لم يتردد في التساوق مع الحركة الحوثية عندما مالت الكفة لصالحهم ... وقد تبعت قوى يمنية أخرى، جماعة الإصلاح في مسعاهم لتغيير قواعد اللعبة
ليست لدى الرئيس المنتهية ولايته الممدد لها من خيارات كثيرة، فهو إما أن يقود البلاد من جديد إلى ضفاف الحوار والمصالحة، وإما أن يضعها على حافة الانهيار والتقسيم والحرب الأهلية ... في ظني، كما في ظن كثيرين، أن مياهاً كثيرة قد جرت في اليمن، لم يعد يُصلح معها الاستمساك بالمبادرة الخليجية،، كما لم يعد ممكنا الركون إلى “شرعية علي عبد الله صالح” التي ما زالت مجسدة في البرلمان الذي يحظى فيه الرجل وحزبه، بغالبية ثمانين بالمائة من مقاعد المجلس ... التفكير بتشكيل أطر انتقالية، تخدم مصالح الجميع بتوازن، هو الذي يمكن أن يخرج اليمن من دائرة الخطر الشديد، وأن يمنع تحوّله إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، بالذات بين طهران والرياض.
في اليمن اليوم، أربعة أقطاب محلية متصارعة ... أولها حركة “أنصار الله” التي باتت لاعباً أساسياً منذ أيلول الفائت ... هذه الحركة ما عاد ممكناً إعادتها إلى قمقم صعدة أو حبسها في مخطط “الأقاليم الست” الذي حاول هادي فرضه على اليمنيين، نيابة عن أطراف عربية معروفة ... وثانيها، القوى الملتفة حول الرئيس العائد إلى عاصمة الجنوب الذي ينتمي إليه، وهي قوى مبعثرة، لكنها تستقوي اليوم وتستظل بشرعية الرئيس المدعومة من عواصم عربية ودولية ... وهناك الحراك الجنوبي، الذي وإن كان ذخراً للرئيس هادي تكتيكياً، إلا أنه سيتحول إلى عبء استراتيجيعليه، سيما في ظل رفض الرئيس للتقسيم والانفصال(حتى الآن)، ورفضه “فيدرالية الشمال والجنوب” وإصراره على الأقاليم الست ... وهناك أيضاً، القاعدة التي تتخذ من المحافظات الجنوبية، فضلاً عن مأرب ملاذاً لها، وهي تثير حفيظة وقلق الغرب والشرق، وتعطي الحوثيين فرصة لامتصاص الغضب الإقليمي والدولي على حركتهم “الثورية”، باعتبارهم ذخراً في مواجهة الإرهاب الأصولي المنفلت من عقاله، والمهدد لأمن الغرب والسعودية والخليج على حد سواء.
إن لم تلتق القوى السياسية اليمنية الأساسية حول برنامج إنقاذ انتقالي، يعترف بأوزان القوى ومصالحها، ويرسم أسس انتقال ديمقراطي لليمن الفيدرالي، فإن البلاد ستكون نهباً للفوضى والتقسيم، وسيعيد اليمن انتاج سيرة العراق وسوريا وليبيا سوية... على أن تسوية كهذه، تبدو بحاجة لتفاهمات إقليمية ودولية، لا أحسب أن شروطها قد نضجت هذه الأيام.
هرب أو تهريب هادي إلى الجنوب، كان بمثابة صفعة للحوثيين، لا نعرف من قام بها، ولكننا نعرف من هو المستفيد منها، يمنياً وإقليمياً ... وإذا استمر تسديد اللكمات (تحت الحزام) بين اللاعبين في اليمن وعليه، فإن هذه البلاد ستكون عرضة لمزيد من الأخطار والتهديدات، وأحسب أن أمام الرئيس هادي فرصة للملمة الموقف ووقف التدهور، إن لم يكن الرجل قد حسم قراره، وقرر أن يقصر طموحاته الرئاسية على جنوب اليمن بعد أن فشل في حكم اليمن الموحد، فشلاً ذريعاً، حين فضل مراعاة حسابات الخارج على حساب مصالح الداخل اليمني، وآثر انتهاج سياسات سلفه في التلكؤ والمراوغة، واللعب على التناقضات، وإدارة البلاد بسياسة إشعال الأزمات ومنهجية فرق تسد.