هناك سنوات مفصلية في حياتنا ، وربما كانت سنة 1915 م إحداها ، ففي شهر أيار من ذلك العام الصعب علقّ “ جمال باشا “ أحرار العرب على أعواد المشانق في ساحات عاليه وبيروت ودمشق ، واستحق لقب ( السفاّح ) بكل بشاعة ، وكان ردّ فيصل بن الحسين على نبأ الإعدام ، أن ألقى الأمير الهاشميّ عقاله على الأرض ، وصرخ صرخته المشهورة :
- طاب الموت يا عرب ..!
ومع هذه الغضبة ، بدأت أول شرارة “ لنهضة العرب “ تتحقق ، وتوجهت أنظار أحرار العرب الذين اكتووا بنار الظلم إلى “ الكبير “ في مكةّ للشريف الحسين بن علي ، وقدمّ أحرار سوريا أختامهم لفيصل ليعطيها للشريف الحسين ، مؤتمنا على شرف العروبة الذي لم تراعه الفئة الحاكمة في استانبول ، وأعلن العرب ثورتهم عام 1916 م ، مستندين إلى شرعية الحسين بن علي ومكانته ، وكانت رؤوس المفكرين العرب معلقة على المشانق ، بلا حرمة للفكر وأصحابه .
صحيح أن جمال باشا ومن معه من الاتحاديين أخمدوا أرواح شهداء الفكر ، لكنهم لم ينجحوا في إخماد جذوة الفكر التي انطلقت من أقلام ومطابع عرب عام 1915 م .
ماذا يفعل عرب اليوم بعد مرور قرن على هذا الزمن المحتشد بالعزةّ والكرامة ..؟ وهل ذهبت صرخة فيصل بن الحسين الخالدة أدراج الرياح وعرب اليوم يعيشون زمن الخراب وتدمير الحواضر العربية التي صنعت للعالم حضارات لا مثيل لها ..؟ من يصدقّ أن دمشق التي استقبلت فيصل بن الحسين عام 1918 م عن بكرة أبيها ونثرت عليه الورود والياسمين الدمشقي ، هي دمشق عام 2015 م والتي يتبارى الغرباء من كلّ الكون ومن تسعين جنسية على تدميرها .. هي هي دمشق ..؟ هلّ تحولت “ ساحة الشهداء “ التي علقت عليها مشانق أحرار العرب لتصبح مرتعا للقتل والتدمير ..؟ أين ذهبت صرخة فيصل ( طاب الموت يا عرب ..؟ ) .
فقط أريد أن أستعيد مع عرب 2015 م أسماء شهداء 6 أيار قبل قرن من عمر الزمان العربي ، لأقول لكم بأنهم يستحقون الاستذكار الحيّ ، فقد علقّ جمال باشا على أعواد المشانق يومها عبد الحميد الزهراوي عضو مجلس المبعوثان ورئيس المؤتمر العربي الأول في باريس سنة 1913 م ، وشفيق المؤيد عضو مجلس المبعوثان ،والأمير عمر الجزائري وشكري العسلي عضو المبعوثان ، وعبد الوهاب الإنجليزي ورشدي الشمعة عضو المبعوثان ، والشاعر وعضو جمعية العربية الفتاة رفيق رزق سلومّ ، أما في بيروت فقد أعدم عبد الغني العريسي صاحب جريدة المفيد ، والأمير عارف الشهابي ، وسعيد فاضل عقل صاحب جريدة النصير ، وسيف الدين الخطيب أحد القضاة في محكمة بيروت ، وبيترو باولي صاحب جريدة الوطن ومحمد الشنطي وجرجي الحداد والدكتور علي عمر النشاشيبي وتوفيق البساطّ والشيخ أحمد طبارة صاحب جريدة الإتحاد العثماني ..فهل من مزيد ..؟ لقد تجرأ على إعدام أصحاب الفكر والقلم والوعي ، لكنهّ لم يخمد الوعي والفكر ، بل بدأت شرارتهما تتحول إلى نار عربية أحرقت الظلم والطغيان .
لا يصحّ لعرب اليوم أن يمروا مرورا عابرا على مئوية مقاصل جمال باشا السفاحّ ، صحيح أننا في زمن قطع الرؤوس العربية ، وإحراق النسر الأردني البطل ، وصحيح أننا أمام قطع رؤوس الحضارات وتماثيل الأشوريين وتكسير الرموز الحضارية في الموصل التي نعرفها بأم الربيعين ( ...! ) في ربيع العرب الأسود ، لكننا أيضا نعرف بيقين أردني الوجه واللسان ، أننا وبعد قرن من عمر الزمن العربي الذي حمل فيه الأردنّ مشعل الثورة العربية الكبرى ، ما زلنا هنا نحمل المشعل ..وأننا المقرّ لفكر التنوير ، وأقول ونحن في زمن جنون داعش ، بأن من حقنا اليوم في الأردن أن نستعيد روح التنوير والنهضة لأنها الحلّ للزمن العربي القادم ، ترحموا معي على شهداء عام 1915 م وأعيدوا قراءة فكرهم في المدارس والجامعات ، وأصارحكم بأن فكر طلبتنا لم يصبح هامشيا إلاّ مع تغيير المناهج وتغييب هذا الفكر التنويري ، وأراهنكم بأن هذه المناسبة التي هزتّ وجدان عرب 1915 م ستنساها مؤسساتنا التعليمية ، وسلاما أيها الشهداء ... سلاما يا فكر التنوير والحريةّ .