كان بالامكان أن لا تكون “الحرب السياسية” داخل الكيان الاسرائيلي ذات قيمة بالنسبة للشعب الفلسطيني، كونه يرى فيها وبحكم التجربة التاريخية أنها “طق حنك” انتخابي، عدا مرات نادرة كما هو حال حزب العمل عام 1992، يوم أن عرض لأول مرة “مفهوم تسوية اقليمي” مع الشعب الفلسطيني، فكان ذلك خروجا عن المألوف السياسي، ما فتح الطريق واسعا لانجاز اتفاق اعلان المبادئ لاحقا، عام 1993 مع منظمة التحرير.
لكن ما يحدث الآن من كشف للمستور السياسي خلال “حرب الانتخابات”، خاصة وانه من الصعب التكهن بنتيجتها، يشير ان الموضوع الفلسطيني، تسوية ومستقبلا بات جزءا هاما من “حرب الانتخابات”، ويبدو أن هناك كشف للمستور من أجل تعرية رئيس الحكومة الاسرائيلية كمقدمة لاسقاطه، وهو ما بات واضحا وجليا، حتى أن هناك قول بأن ادارة أوباما تعمل كل ما أمكنها لاسقاطه، ليس حبا في تغيير جوهري للبعد السياسي الاقليمي، ولكن لرد اعتبارها بعد الاهانة التي ارسلها بيبي في خطابه امام الكونغرس.
من أهم ما لفت الانتباه في زخم المعركة الانتخابية، قيام احد اهم صحفيي الكيان، ناحوم برنياع بنشر ما أسماه “وثيقة تفاهم” بين الرئيس محمود عباس وبيبي نتنياهو، من خلال موفدين لهما، تم صياغتها عام 2013 وبعلم الادارة الأميركية، - هنا يبدأ دور واشنطن في فضح نتنياهو - ، وثيقة نشرتها الصحيقة الأكثر انتشارا في اسرائيل، يديعوت احرنوت يوم 6 آذار 2015، الوثيقة تؤكد أن “ ‘الجانبان متفقين على أن هدف جهودهما هو التوصل إلى نهاية المواجهة (الصراع) وكافة المطالب... وهما متفقان على أن القضايا المتعلقة بالوضع الدائم يجب أن تتطرق إلى الاحتياجات الشرعية لكلا الجانبين... وهما يتشاركان الرؤيا التي تتحدث عن دولتين للشعبين، مع حقوق دينية متساوية ومن دون تمييز تجاه مجموعة إثنية أو دينية”.
الوثيقة حملت نصوصا لمختلف القضايا، لكن ما يهم الفلسطيني قبل الاسرائيلي، البند الخاص بمدينة القدس، مع اهمية البنود كافة، لكن مسألة القدس لها مكانة خاصة حيث اشارت الوثيقة الى القدس: “أي حل يجب أن يتطرق إلى الروابط التاريخية، الدينية، الثقافية والعاطفية لكلا الشعبين تجاه المدينة وحماية الأماكن المقدسة. وثمة ثلاثة أوجه لقضية القدس: إقليمية، سيادة وأماكن مقدسة. وفي إطار التقدم نحو حل بإمكان الجانبين التطرق إلى تطلعاتهم تجاه المدينة وشريطة ألا يعيدوا تقسيمها”.
وبعيدا عن أي نص خلافي آخر، مهما كانت قيمته السياسية، الا أن هذا النص الخاص بالعاصمة الابدية لفلسطين، يكشف أن ما أن جاء في مشروع العار الى مجلس الأمن حول تقسيم القدس بطريقة تتقارب مع الرؤية الصهيونية، لم يكن “سهوا سياسيا” بل هو جزء من اتفاق سابق، او بالأدق “تفاهم تفاوضي”.
مرت ايام عدة على نشر “وثيقة التفاهم” وقامت قيامة الليكود وجماعته وحاولوا بكل الأساليب ابعاد عنهم شبهة “التفاهم” مع الرئيس عباس، ليس بسبب ما جاء بخصوص القدس، ولكن بسبب الحديث عن دولة فلسطينية والاشارة الى حدود 67..لكن الطرف الرسمي الفلسطيني لم يقل كلمة واحدة حول تلك “الوثيقة”، وهل حقا حصل مثل ذلك “التفاهم”.
ولأن الرئاسة الفلسطينية، لم تنطق لا خيرا ولا عكسه، فإن التعامل معها يصبح مشروعا، بأن هناك “وثيقة تفاهم” تم التوصل اليها، والى حين سماع موقف الرئاسة منها يصبح الحق لكه أن يقف الإنسان الفلسطيني أمام مخاطرها السياسية والدينية أيضا.
الوثيقة تناولت مختلف القضايا المعلقة فيما يعرف بقضايا “الحل النهائي”، ولأن كل شيء قابل للتداول الا أن مسألة القدس كما نصت عليها “وثيقة التفاهم” تشكل خروجا عن كل الرؤى الوطنية الفلسطينية، بل وضرب عرض الحائط بقرارات المؤسسات الوطنية، ولعل الصيغة كما وردت تشكل اعادة لاغتيال الزعيم الخالد ياسر عرفات.
الوثيقة تشير الى أن القدس يجب الا تقسم، وتأخذ بعين الاعتبار “ الروابط التاريخية، الدينية، الثقافية والعاطفية لكلا الشعبين تجاه المدينة وحماية الأماكن المقدسة. وثمة ثلاثة أوجه لقضية القدس: إقليمية، سيادة وأماكن مقدسة”. وهذا نص صريح جدا بحق “اليهود” في القدس دينيا وتاريخيا، أي تسليم بأن “الهيكل كان هناك” وهي مسألة ليست ثانوية، ومن شهد معركة “كمب ديفيد” عام 2000 يعلم يقينا أن أقل كثيرا من هذا النص تم رفضه، بل أن ياسر عرفات وضع روحه على كفه وهو يرفض ما هو أدنى بكثير مما نصت عليه الوثيقة..وليت من اتهم يوما غيره بالتآمر في كمب ديفيد يتذكر من هو حقا المتآمر على الخالد بعد ان افتضح أمره بوثيقة التفاهم!
لا نريد السير في نقاش وجدل حول خطر ومخاطر هذا النص، سياسيا ودينيا وتاريخيا، لكننا نؤكد أن هذه الجمل تمثل خطوات عملية لتهويد الأماكن المقدسة في العاصمة الأبدية، بل وتلغي عنها قدسيتها الخاصة للمسلمين والمسيحيين، نص يعيد كل المخاوف التي أنتجها مشروع القرار المشبوه الذي تم تقديمه لمجلس الأمن، ويتحدث عن تقاسم المدينة المقدسة على حساب السيادة الفلسطينية والحق التاريخي.
لنترك كل ما بالوثيقة من نصوص أخرى، وما جاء بها من “تنازلات سياسية” فكلها يمكن تطويقها، لكن الأخطر هو ذلك الاعتراف بحق “اليهود” في المدينة المقدسة، ما يفتح شهية الضم والتهويد تحت ستار الدين.
بداية نتمنى من الرئاسة الفلسطينية أن تقول كلمتها فيما يطالها من اتهامات تخرج عن المعتاد وطنيا، وأن لا تبقى صامتة تحت ذريعة أن تلك “الوثيقة” تضر بنتنياهو، كما تحاول واشنطن التلاعب، فهذه ليست المعركة، لكن الأهم وطنيا أن لا يكون مثل هذا النص موجودا، وعدم نفيه يفتح باب جهنم السياسي على اصحابه..خاصة وأن الخالد ذهب شهيدا بما هو أدنى بكثير من هذا “النص الخياني جدا”.
ننتظر موقفا واضحا قاطعا من الرئاسة الفلسطينية لنفي ذلك النص، دون الانتظار أكثر..الخطر يفوق اللغة فيما هو مطلوب يا سادة..وإن لم يكن هناك نفي قاطع سنبدأ في خوض معركة من نوع جديد..الأمل كله أن تستجيب الرئاسة الفلسطينية لصوت الوطن وروح الخالد ابو عمار وتنفي أو تتنصل مما قيل أنها وافقت عليه نصا تهويديا لمدينة القدس.
ملاحظة: البعض تساءل هل نسقت السلطة أمنيا مع دولة الكيان لارسال مزيد من القوات من رام الله الى نابلس لمواجهة الأحداث في مخيم بلاط..ولو حدث هل يعني أن التنسيق مستمر وقرار المجلس المركزي ذهب الى جهنم..سؤال!