قال لي صديقي الغاضب جدًا إننا يجب، بعدما أصبح خبر ما يجري في اليرموك مسيطرًا على وسائل الإعلام على امتداد العالم، أن نسلط الضوء على أداء السلطة الفلسطينيّة المشغولة فقط بوقف حجز الأموال الفلسطينيّة من إسرائيل، وقضية دحلان، والمناكفات بين سلطتي الضفة وغزة، ومصير الموظفين الذين عينتهم حكومة «حماس»، ودخول الشرطة إلى بلدة «الرام»، وما يجري في «مخيم بلاطة»، وقانون تحويل سلطة النقد إلى بنك مركزي، ونتائج إعادة تقييم السياسة الأميركيّة، ومضمون المبادرة الفرنسيّة، أي السلطة الفلسطينية الغائبة بشكل يكاد يكون كليًّا عما يجري في اليرموك خصوصًا، وما يجري لشعبنا في الشتات عمومًا، والتي لا تتصرف بوصفها قيادة لكل الشعب الفلسطيني، وإنما مجرد سلطة حكم ذاتي محدود على الضفة وغزة، وذلك كإحدى النتائج المرّة لاتفاق «أوسلو» الذي فصل القضيّة عن الشعب والأرض، وحولها إلى قضايا وأراضٍ وشعوب، ما أدى إلى شعور من شعبنا في أراضي 48 أنه تُرك ليواجه مصيره وحيدًا، وشعور مؤجل من شعبنا في الشتات الذي انكشف ظهره تمامًا بعد «أوسلو» وتُرك وحيدًا يدفع الثمن غاليًا جرّاء غياب الممثل الشرعي الوحيد.
وانتهى الأمر إلى وقوع الانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة وغزة، وشعور كل منها والقدس أنها وحدها تواجه الحصار والعدوان والمجازر، أو الهجمة الاستيطانيّة العدوانيّة المكثّفة التي تسابق الزمن لاستكمال تحقيق المشروع الصهيوني الاستعماري الاستيطاني الـــقاضي بالاستيلاء على أكبر مساحة ممكــنة من أرض فلسطين وتهويدها، وطـــرد أكبر عدد ممكن من الفلســطينيين أصحاب البـــلاد الأصليين.
هناك من يقول إنه ليس باليد حيلة، وأنّ ما يفعله الرئيس أنسب ما يمكن أن يُفْعَل، لأن اختلال ميزان القوى، والعواصف التي تهب في المنطقة المضعِفة للعرب، أديا إلى تراجع اهتمامهم بالقضيّة الفلسطينيّة، ما يجعل الانحناء ريثما تمر العاصفة هو السياسة السليمة.
نعم، نحن في مرحلة لا نستطيع فيها أن نفرض حلنا، أو نتوصل إلى تسوية تحقق الحد الأدنى من حقوقنا عن طريق التفاوض، والأرض وما عليها تميد بِنَا وتتهددنا بالثبور وعظائم الأمور، ولكن المشكلة أن رئيسنا وقيادتنا وجُلّ فصائلنا لا يزالون يتوهمون أن «الدولة» أو «الدولة الموقتة» التي مركزها الضفة أو غزة على الأبواب أو على مرمى حجر، وبعدما يئسوا من تحقيق ذلك عن طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة، تسلل إلى عقولهم وَهْمٌ جديد بأن الحل سيكون عن طريق حل يُفرض على الطرفين دوليًا من خلال عقد مؤتمر دولي.
ما سبق يعني الانتقال من وهم قديم إلى وهم جديد، علماً أن المطلوب أخذ العبر من نتائج الطريق الذي سرنا فيه منذ أكثر من 25 عامًا وأوصلنا إلى الكارثة التي نحن فيها، فلم تتحقق الدولة على حدود فلســــطين العام 1967، ولم تتحرر فلسطين من النهر إلى البحر. والمطـــلوب أيضًا أخذ المتغيرات الهائلة والحقائق الجديدة، بما فيها أن إسرائيل تتجه نحو المزيد من التطرّف والعنصريّة، وأنها لا تبحث عن تسوية بل تعمل على فرض حلها، وهي قد لا تستطيع تحقيقها الآن وفورًا، لكنها قادرة على رفض أي تسوية سيحاول المجتمع الدولي فرضها على الطــــرفين، لأنها وأصدقاءها في أمــــيركا قادرون على كسب الموقف الأميركي أو منعه من المساهمة بجهـــود دوليّة تريد فرض تسوية لا ترضاها إسرائيل.
بدلًا من ذلك، يجري التعلق مجددًا بالجهود الرامية إلى عقد مؤتمر دولي يسعى لفرض حل على الطرفين، علماً أن هذا إذا حصل يمكن أن يؤدي إلى احتمالات ثلاثة أحلاها مرّ: أولها، إضاعة المزيد من الوقت في التحضير للمؤتمر، ومن يشارك فيه، وتحديد أسسه ومرجعيته، وما يمكن أن ينتهي إليه، وهو الذي ستستغله إسرائيل لاستكمال فرض الأمر الواقع الذي يناسبها. وثانيها، عقد المؤتمر والفشل في تحقيق اتفاق أو التوصل إلى تســــوية. وثالثها، فرض تســــوية يقال إنها متوازنة، ولكنها ستأخذ بالحسبان موازين القوى والأوضــــاع الفلسطيــنيّة والعربيّة والإقليميّة الراهنة، ما يعــــني أنها ستكون تسوية سيئة، ويُحتمَل أن تكون أسوأ من «اتفاق أوسلو».
لا توجد أي مبالغة في هذا الاستنــــتاج، فالضعف والانقسام، وغياب المؤسسة الوطنيّة الجامعة وبرنامج القواســــم المشتركة، وشلل المنظمة وتغييب الشعب، وترك كل تجمع فلسطيني يواجه مصيره منـــفردًا، لا يقود إلى تسوية تحـــقق الحد الأدنى، أو حـــتى تكون مرضـــية، وإنما إلى تسوية تعكس الأمر الواقع السيئ كليًا، أو إلى حد كبير على الأقل.
هل يعني ما سبق القبول بما هو كائن والتعايش معه، أم الاستسلام وقبول أي شيء بحجة أن أي شيء أفضل من لا شيء، أم التهور والمغامرة والقفزات البهلوانيّة وحرق المراحل؟
هناك بديل من ذلك كله، يتمثل بالاعتــــراف بالأمر الواقع والتعامل معه من أجل تغييره وفقًا للإمكانيات المـــتاحة في كل مرحلة، والعمل على بلورة رؤية شاملة تكون بمثابة «خريطة طريق» توضّح أيــــن نقف الآن، وإلى أين نريد الوصول، وكيفية الوصول إلى ذلك؟ فلا ينفع أن نكتفي بتحديد أين نقف الآن، أو بأن نعرف ما نريد تحقيقه، بل يجب تحديد الأهداف الممكنة في كل مرحلة، والإستراتيجيات الكفيلة بتحـــقيقها، بما يسمح بوضع أهداف جديدة على طريق إنجاز الحل الوطني في النهاية، الذي يحفظ الحقوق الطبيعيّة والتاريخيّة للشعب الفلسطيني.