المؤكد أن مواجهات الأشهر الثلاثة الأخيرة، انتهت إلى حصيلة “مخيبة لآمال” النظام السوري وحلفائه ... المعارضات المسلحة، وفي القلب منها جبهة النصرة، سجلت اختراقات نوعية على جبهات عدة: من المحافظات الجنوبية مروراً بإدلب وسهل الغاب وانتهاء بجسر الشغور وجوارها ... ضربات موجعة وذات طبيعية “استراتيجية” تلقاها النظام، واشاعت في أوساطه وفي صفوف حلفائه ومؤيديه، الكثير من مشاعر الغضب والقلق والتحسب. على أن “الحرب النفسية” و”التغطية الإعلامية” المصاحبة لهذه الضربات، ذهبت بعيداً في تقدير أهميتها والمبالغة في رصد مغزاها وتداعياتها على مجمل الصراع الدائر في سوريا، حتى أن البعض أخذ يتحدث عن سقوط وشيك للأسد مع بقاء النظام، بعض “المتحمسين” وصل أبعد من ذلك وطالب بتفكيك النظام وإعادة بنائه، ناطق عسكري معارض توعد بالوصول إلى القصر الجمهوري في دمشق قريباً، آخرون تحدثوا عن “طائف” سوري، تسعى الرياض في تنظيمه من دون الأسد وعلى حسابه. الحملة المصاحبة للضربات، نجحت في التسلل إلى صفوف النظام ومؤيديه ... نبرة الخطاب الإعلامي الرسمي السوري تنطوي على قدر من الإحساس بالأسى وينضح بعبارات “تعزية النفس” ... تصعيد في لغة الدعم والتأييد والالتفاف حول الجيش السوري والثقة بقدرته على الانتصار ... انتقادات لحلفاء دمشق الإيرانيين في صحف محسوبة على هذا المحور، لصمتهم المريب الذي يرقى إلى مستوى التخاذل في دعم الجيش السوري ... تقديرات وتكهنات تتطاير في كل اتجاه. أخطر ما هذا السجال الدائر على نحو موازٍ لما يجري على جبهات القتال، هو عودة الروح لنظرية “الحسم العسكري”، لكأننا أمام كرة تتقاذفها أقدام الأفرقاء المتحاربين في سوريا وعليها ... عندما يحقق النظام تقدماً أو قل “اختراقاً” على محور، تغلب على خطابه نبرة السخرية من المعارضة، وتهيمن على تصريحات الناطقين باسمه، نبرة استعلائية، تميل لمنطق (أو لا منطق) الحسم العسكري ... والأمر ذاته، يتحقق، وأحياناً بلغة “عنترية” عندما تنجح المعارضات في تسجيل تقدم أو اختراق على جبهة أخرى، يصبح الوصول إلى القصر الجمهوري في دمشق، وتفكيك الجيش والأمن وإعادة تركيبهما هو برنامج “الحد الأدنى” للمعارضين ... فتكون الخلاصة أن أحداً لم يستفد من دروس السنوات الأربع الدامية التي ألحقت بسوريا دولة وشعباً ومجتمعاً، أفدح الخسائر وأكثرها إيلاماً وأبعدها أثراً. والحقيقة أن المكاسب الأخيرة التي حققتها المعارضة على غير جبهة، ستبقى “مفخخة” حتى إشعار آخر، وقابلة للانتكاس والانعكاس حتى يثبت العكس ... فهي أولاً، جاءت على خلفية رفع منسوب التدخل الخارجي، بعد اتفاق الرياض والدوحة وأنقرة على تنحية خلافاتهما والتفرغ لدعم “عاصفة حزم” مصغرة في سوريا، وهذا أمر لا يمكن الركون إليه أو التعويل عليه طويلاً، في ظل إقليم متغير، ينام على خريطة ليصحو على خرائط أخرى للمواقف والتحالفات ... وثانياً، لأن المنتصر الأكبر في معارك الأشهر الأخيرة، هو جبهة النصرة، الوكيل الحصري للقاعدة في سوريا وفرعها الرسمي المعتمد، وهذا أمر يثير مخاوف وقلق أطراف عديدة ولعدة أسباب: (1) الولايات المتحدة والغرب عموماً وبعض الدول العربية والإقليمية، ما زالت تنظر للنصرة بوصفها فصيلاً إرهابياً، ولم تقبل بعد برواية المحور الثلاثي بأنها مشروع “اعتدال” وجزء من “الثورة” وعامل من عوامل الحل والتغيير في سوريا ... (2) صحيح أن النصرة، اعتمدت تكتيكات أكثر مرونة من تلك التي عودتنا عليها دولة “داعش” الإسلامية، لكن تاريخ النصرة مع حلفائها من فصائل المعارضة المسلحة، بمن فيها الإسلامية، هو تاريخ دموي بامتياز، وليس مستبعداً أن تنقلب على حلفاء اليوم ليصبحوا خصوم الغد وليتحولوا إلى أهدافٍ مشروعة للاغتيالات والسيارات المفخخة والمطاردات، وعندما سنعود لإنتاج سيرة الانشقاقات المستمرة في أوساط المعارضات وحروبها الداخلية التي لا تنتهي، والتي عادة ما تمكن النظام، من تحقيق مكاسب على الأرض بأقل قدر من الخسائر. (3) على أن النظام وحلفاءه، لم يقولوا حتى الآن، كلمتهم الفصل في مصائر المناطق التي فقدوا السيطرة عليها، فهل سلّم النظام بسقوط إدلب وجسر الشغور وبصرى الشام ونصيب والغاب في أيدي خصومه، أم أننا سنكون أمام معارك كر وفر، ألم يحدث أمر مشابه من قبل وعلى عدة محاور. إن كان هناك من درس يتعين استخلاصه من وقائع الأشهر الأخيرة في الميدان، فهو أن “الحسم العسكري” ليس خياراً لسوريا، وأن الحل السياسي هو المخرج الوحيد من الاستعصاء، وأن الدول التي كانت شريكة في صنع الأزمة السورية ومفاقمتها، لا يمكن أن تنفرد بوكالة حصرية لحلها ... لا بد من توافق إقليمي على الحاجة لحل سياسي للأزمة السورية، وإلا سنظل ندور في دوامة القتل والدم والخراب، لسنوات عديدة قادمة. مثل هذا الحل لم تتوفر شروطه بعد، على أن المنطقة مقبلة على استحقاقات مهمة خلال الشهرين القادمين، وأهمها مصائر اتفاق لوزان النووي، وما إذا كان سيستكمل باتفاق نهائي أم لا؟ ... صيرورة الصراع في اليمن، وكيف ستتعامل الأطراف معه، وأية أولوية ستعطيها إليه ... حتى الآن، لا يمكن القول إن اليمن يتقدم سوريا في حساب الأولويات الإيرانية أو الروسية، صحيح أنه كذلك في الحسابات السعودية على سبيل المثال، ولكن عدم تحقيق اختراق على المسار اليمني، يمكن أن يدفع الرياض للبحث عن انتصار على المسار السوري، وهنا ستجد شركاء متحمسين، مستعدين للذهاب معها حتى نهاية الشوط، من الدوحة إلى أنقرة، مروراً ببعض العواصم الغربية. إن ظل مسار المواجهات في سوريا على حاله، وظل النظام وحلفاءه على مراوحتهم وانكفاءاتهم، فليس مستعبداً أن ينجح السيد أردوغان في تحقيق حلمه القديم المتجدد، بفرض منطقة عازلة ومحظورة على الطيران السوري، في شمال سوريا، وقد تكون حلب هي الوجهة التالية لغرفة عمليات أنطاكيا، وعندها سنكون أمام تقسيم واقعي لسوريا، قد تتبعه انقسامات أخرى في الجنوب ... مثل هذا السيناريو قد يجري تمريره تحت شعارات “إعادة بناء توازن القوى تمهيداً للحل السياسي”، لكن تضارب مصالح الأطراف، وزيادة منسوب التدخل الإقليمي في الأزمة السورية، قد يجعل من الحل المؤقت، حلاً دائماً، وعندها يصبح تقسيم سوريا، هو الحل الواقعي الممكن، أليس هذا ما هو السيناريو الأكثر واقعية في العراق المجاور على سبيل المثال؟! المعركة مفتوحة على شتى الاحتمالات، ومن الصعب من الآن البناء على “صيحات النصر” التي تطلق من هنا أو هناك، سوريا باتت جزءاً من المشهد الإقليمي / الدولي، لا حلول سورية لأزمتها، ولا حلول منفصلة عن صراع الإقليم المقتتل مع بعضه البعض على امتداد خرائطه.