عمان - الكاشف نيوز
لو كنت من متابعي وسائل التواصل الاجتماعي في الفترة الأخيرة، فربما صادفك إعلان ترويجي عن لبان (علكة) “إكسترا” EXTRA، وهو إعلان يصور مشاهد من الحياة بعد انتهاء الجائحة، يظهر فيه الناس وهم يتطلعون إلى الخارج ببطء وفضول، من خلف الأبواب المغلقة، ثم يغلقون أجهزة اللابتوب الخاصة بهم، قبل أن ينطلقوا من جحورهم المملوءة بورق الحمام إلى الشارع، مبتهجين، دون ارتداء الأقنعة الواقية، ويبدو الممثلون بغير اغتسال وفي حال رثة، وهم يهرولون ببهجة إلى أقرب حديقة عامة، ويقرر كل شخص أن يقفز على أول غريب يقابله، ثم ينخرط الاثنان في نوبة عاطفية حارة، تُذَكِّر بأغنية الطاقة التي شدت بها المطربة سيلين ديون، "الآن أستعيد كل شيء".
أكثر من مئة عام مضت منذ أصاب وباء الأنفلونزا الإسبانية حياتنا الجنسية بالخمول، الدرجة نفسها التي مررنا بها في أثناء جائحة "كوفيد-19"، وباعتباري طبيبة وباحثة متخصصة في الصحة الجنسية، أستطيع أن أشهد بخلو قاعة الانتظار في عيادتي من الزوار لمدة أشهر، بسبب حرص الناس على التباعُد الاجتماعي والجنسي، فقد أُخمِدَت رغباتهم الجنسية خوفًا من العدوى، هناك بالتأكيد بعض الأشخاص الذين كان امتناعهم عن الجنس خوفًا من الجائحة امتناعًا قصير الأمد، كما أسعدني مراقبة منظمات الصحة العامة، في نيويورك وكندا، وهي تقدم للناس بسرور كافة الإرشادات في هذا الصدد.
رغم ذلك فإن شهية المرء للجنس بوجه عام تفتر بالتوازي مع ضعفه النفسي، عندما يستنفد الشخص كل طاقته ليتمكن من البقاء على قيد الحياة فحسب، لم يكن هذا الوضع خاصًّا بالأمريكيين وحدهم، فالدراسات التي أُجريت في المملكة المتحدة، والصين، وإسرائيل، وأستراليا، وجدت أن 40% -60% من الناس قللوا من شركائهم الجنسيين، أو خفَّضوا عدد مرات ممارسة الجنس، في أثناء الجائحة، ونتيجةً لهذا الامتناع الجماعي (إضافة إلى نقص أدوات الاختبار على مستوى الدولة)، هبطت معدلات الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًّا (STIs) في الولايات المتحدة، في الربع الأخير من عام 2020، بعد أن كانت قد سجلت مستويات مرتفعة في عام 2019.
أما الآن، وفي ظل توافر اللقاحات بالجملة في الولايات المتحدة، فلم يتبقَّ إلا القليل الذي يحول بيننا وبين العودة إلى ممارسة الجنس مرةً أخرى، ربما يمكن النظر إلى أغنية سيلين ديون على أنها تعني ضمنًا أن ذاكرة عضلاتنا بشأن الجنس تشبه ذاكرة عضلاتنا بشأن ركوب الدراجات، فعدم ركوب الدراجة لفترة معينة لن ينسينا كيف نقود الدراجة مرةً أخرى، لكن الأمر غير الواضح هو ما إذا كان الدافع إلى الجنس لا يزال موجودًا لدينا، كانت الممارسة الجنسية في أمريكا آخذةً في الهبوط على مدار عقدين تقريبًا قبل الجائحة، حتى بين الشريحة السكانية والعمرية التي تتميز بأعلى نشاط جنسي. ففي دراسة شملت أكثر من 9 آلاف شخص بالغ، واعتمدت على مسح أُجري من عام 2000 إلى عام 2018، تبيَّن أن ثلث الشباب في عمر 18 -24 عامًا لم يكن لهم نشاط جنسي في عام 2018، كما تميز النشاط الجنسي أيضًا بالانخفاض طوال فترة الدراسة لكلٍّ من الرجال والنساء في عمر 25 – 34 سنة.
أما بالنسبة للمقبلين على استئناف حياتهم الجنسية، فمن المنطقي أن يكون عامٌ كامل من التعايش مع كوفيد، وارتداء الكمامات، والخضوع للاختبارات، والمناقشات حول التعامل الاجتماعي الآمن، مدخلًا لمناقشة كيف يمكن جعل الجنس أكثر أمانًا، لكن الأمر ليس كذلك، وفق ما تقول ليزا ويد من جامعة تولين، التي أجرت مقابلات مع أكثر من 120 طالبًا جامعيًّا حول سلوكهم الجنسي في أثناء الجائحة، ورغم تبايُن الطلاب المشاركين في الدراسة من حيث العِرْق، والميول الجنسية، والخبرة السابقة في الممارسة، فعند سؤالهم عما إذا كانت الحياة في ظل "كوفيد" قد غيرت طريقة تفكيرهم في الجنس، والإصابة بالأمراض الجنسية، كانت إفاداتهم "متوافقة إلى حدٍّ مذهل"؛ إذ أجابوا بكلمة "لا" مدوية، ومصحوبة بنظرة تنم عن الذهول والاستنكار.
يجري اختبار الطلاب المشاركين في دراسة ويد مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيًّا، للكشف عن إصابتهم بـ"كوفيد"، ويتاح لهم أن يسأل أحدهم الآخر دون حرج عن نتائج اختباراتهم، ورغم ذلك فإن الاستفسار عن أي اختبار يتعلق بالإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًّا، لا يكون طبيعيًّا بقدر التساؤل عن اختبارات الإصابة بكوفيد، فلا تزال الأمراض المنقولة جنسيًّا مصحوبة بوصمة تُغرق هذه المناقشات في مناورات لفظية من قبيل التساؤل: "ما الهدف الذي تريده من إجراء الاختبار؟"، أو "ما الذي تنوي فعله؟"، حتى أولئك الذين لا يجدون حرجًا في أن يطلبوا من الآخرين ارتداء الكمامة، يمكن ألا يستريحوا لمطالبة الشريك الجنسي باستخدام الواقي الذكري، أو أن يقابَلوا بالصد عند طرح هذا المطلب.
إن مقاومتنا لاستخدام الواقيات الذكرية وغيرها من الحواجز، لا تتوقف على النوع، أو العمر أو الميل الجنسي، لقد استوعب باحثو فيروس نقص المناعة البشرية المكتسب (HIV)، ولوقت طويل، مفهوم "إجهاد الواقي"، عند الذكور المثليين، وهو إجهاد يحدث بعد أعوام من الاستماع إلى حملات الوقاية من HIV، التي تنصح بضرورة استخدام الواقي، ومثلما وجد بنجامين كلاسن، من جامعة سيمون فريزر، في دراسة نشرها عام 2019، فإن الواقيات الذكرية في أوساط الذكور المثليين، لها سمعة ومكانة وسائل النقل العام، إذ تبدو في نظرهم شيئًا تريد من كل الآخرين أن يستخدموه، دون أن تُلزم نفسك أنت باستخدامه.
تفقد الواقيات الذكرية شعبيتها أيضًا مع بداية الجيل "زد" Z (الجيل التالي لجيل الألفية)، رغم أن المراهقين هم الفئة العمرية التي يُحتمل أن تكون الأكثر استخدامًا للواقيات، ووفق مسح مخاطر سلوك الشباب، الذي أجرته مراكز المكافحة والوقاية من الأمراض (CDC)، فإن نسبة استخدام الواقيات بين طلاب المدارس العليا في أثناء أحدث لقاء جنسي لهم، هبطت من 62% عام 2007 إلى 54% عام 2019، وتزداد النظرة سوءًا فيما يتعلق باستخدام حاجز الأسنان، وهو رقعة مربعة من البلاستيك توضع فوق الأعضاء التناسلية للمرأة في أثناء الجنس الفموي؛ فقد وجدت جولييت ريخترز، من جامعة نيو ساوث ويلز، أن نسبة النساء الأستراليات اللائي سبق لهن استخدام حاجز الأسنان في أثناء ممارستهن الجنس مع نساء أخريات كانت أقل من 10%، وأن 2% فقط منهن كن يستخدمن حاجز الأسنان بانتظام.
يبدو أنه ينبغي علينا في العصر الحالي، عصر الإبداع التكنولوجي، أن نستخدم شيئًا أفضل من العوائق الفيزيائية، ربما يكون هذا الشيء تطبيقًا على الهاتف الذكي، أو شعاعًا من الليزر يدمر الأمراض المنقولة جنسيًّا، ولكن مع ذلك تظل الواقيات الذكرية هي الأداة الوقائية المتعددة الأغراض، فهي تؤدي إلى منع الحمل، وأيضًا الحماية من مرض نقص المناعة المكتسب، والأمراض المنقولة جنسيًّا، ولكن ما يبعث على الأمل أن هذا الوضع يحتمل أن يتغير، فهناك مجموعات، مثل المبادرة الدولية لتقنيات الحماية المتعددة الأغراض (IMPT)، تعمل على دفع تطوير عشرين منتجًا على الأقل، منها حبوب منع الحمل، والحلقات المهبلية، والعوائق، والمراهم، والمواد التي يمكن أن تُحقَن أو تُزرع، وهي منتجات توفر الحماية ضد شيئين على الأقل من الأشياء غير المرغوب فيها، كالحمل غير المخطط له، أو الأمراض المنقولة جنسيًّا، أو فيروس نقص المناعة المكتسب.
ماذا عن إمكانية صنع واقٍ ذكري أفضل؟ حاولت مؤسسة "جيتس" Gates أن تدفع الأمر إلى الأمام، فقدمت مئة ألف دولار، منحًا أولية لبعض الشركات في عام 2013، لمساعدتها على تطوير واقٍ ذكري للجيل القادم، يتسم بأنه "يحافظ على اللذة أو يعززها"، مما يساعد على "تحسين الانتظام في استخدام الواقيات"، وبحلول عام 2019، حصلت ثلاث من إحدى عشرة جهة من الجهات المتلقية للمنح، على مبلغ إضافي قدره مليون دولار، للتعجيل بالوصول بالأمر إلى مرحلة التجارب السريرية، ليس من المعروف بعد هل استمر تطوير هذه المنتجات في أثناء الجائحة، أو هل ستجد هذه المنتجات طريقها إلى الأسواق؛ ففي الوقت الراهن على الأقل، ترتفع مبيعات الواقي الذكري التقليدي، لكن هذا الارتفاع لا يحتمل أن يستمر على المدى الطويل، نظرًا إلى أننا نميل دائمًا إلى العودة إلى أنماطنا القديمة في الاستخدام.
ثم إن هناك دائمًا ذلك الأمل في تطوير لقاحات ضد العدوى المنقولة جنسيًّا، ورغم أن إنجازًا من هذا القبيل لن يظهر في المستقبل القريب، إلا أن هناك تجارب سريرية جديدة تُجرى حاليًّا، بهدف إنتاج لقاحات ضد الهربس التناسلي، والسيلان، وكما أظهرت عملية السرعة القصوى Operation Warp Speed، فإن شركات الدواء تستطيع أن تنتج لقاحات فعالة بسرعة، إذا توافر القدر الكافي من الإرادة السياسية والدعم المالي.
ولكن ليس مهمًّا أن يكون مستقبل الحماية متمثلًا في إنتاج واقٍ ذكري أفضل، أو أداة جديدة، أو لقاح ضد الأمراض المنقولة جنسيًّا، المهم هو توفير منتجات حماية يُقبِل الناس على استخدامها بالفعل، إذا قُدِّر للنبوءات التي تقول بعودة ازدهار العشرينيات الهادرة، أو ظهور صيف ساخن للحب بعد "كوفيد"، أن تتحقق، فالنتيجة المؤكدة عندئذٍ ستكون ارتفاع معدل الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيًّا، وفيروس نقص المناعة المكتسب، إن الوفاء بالاحتياجات الحالية لعشيرتنا المتنوعة جنسيًّا، يحتاج إلى ما هو أكثر من طرقنا القديمة للعزل، وعلينا أن نستثمر الآن في تطوير منتجات وقائية جديدة، وإلا فإن الخطر المصاحب للممارسات الجنسية سوف يصيبنا لاحقًا.