عمان - الكاشف نيوز
خدلته عصاه البيضاء التي لطالما ثبتت خطاه في الأماكن المناسبة، فسقط على الأرض سقطة حزت في نفس كل من رآه على مدى الشارع الطويل، وهرع الكل لمساعدته على النهوض، إلا أنه لم ينتظر مساعدتهم بل نهض مسرعا وأكمل هرولته نحو المسجد الذي اعتاد على إقامة الصلاة فيه، ولم تمنعه ظلمة الفجر ولا ظلمة عينيه ولا تغير الفصول ببردها القارس وحرّها الشديد من اقامتها كما اعتاد.. أي إرادة هذه التي تجعل من موانع الحياة مسببات ومحفزات تقودنا نحو غاية روحية لا مادية؟ أيعقل أن يستمد هذا الكفيف قوته وعزيمته من معيقات يتحجج بها من يتسرّب النور لحدقته كل يوم؟
لا عجب أن زوجته الجميلة، المثقفة والمتدينة اختارته من بين جميع الخطاب الذين تقدموا لها وتمنوا وصالها.. فضّلته عنهم كلهم فطعن الجميع في أخلاقها وتشككوا في مبادئها.. اعتقدوا أن فتاة في مثل جمالها لا يمكن لها أن تختار العيش مع كفيف، إلا إذا كانت تُبَطن أسباب قاهرة تجعلها تخشى اختيار رجل سليم البدن، وتضطرها للتنازل متزوجة (بأعمى) في نظرهم، وفي نظرها تنازلها الوحيد كان عن الحياة وملذاتها الفانية، وكانت واعية للدرجة التي أيقنت فيها أن حياتها ستكون أكثر سعادة، وكينونتها أعمق تقديرا عندما تصبح بين يدي هذا الشاب المتدين.
اختارها الجميع لجمالها، فاختارت من لا يبصر ظاهرها ويتبصر جوهرها الأصيل، فيقدر شخصها وحسن أخلاقها، وما خابت أبدا في اختيارها، رغم أن أسرتها اعتبرت زواجها من أعمى قيدا لها اعتقادا منها أنها سوف تلازمه حيثما حل وارتحل، وهذه عقلية غير سليمة لأنها تلغي المقاصد السامية للزواج، والمجتمع يجب أن يعي هذه الأمور، فلم تقف الإعاقة يوماما أمام بناء أسرة متماسكة تنطلق من هويتنا الإسلامية السمحة.
في المقابل أسرة زوجها لا تخرج عن دائرة تفكير المجتمع، فمعظم الأُسر في مجتمعاتنا تفضل زواج الشخص المعاق من شريك مشابه له من ناحية الإعاقة (معاق سمعيا يتزوج من معاقة في السمع)، أو أن يعاني الطرف الآخر في الزواج من إعاقة مختلفة ولكن يصنف ضمن فئة المعاقين (معاق حركيا يتزوج من فتاة معاقة سمعيا)، ويرون أن مصلحة زواج ابنهم من شريك يعاني من نفس الإعاقة أو إعاقة مختلفة سوف يساعد كثيرا في نجاح الزواج واستمراره، ومبرراتهم في ذلك هو أن الشريك المعاق يكون أكثر تفهما وعلى دراية وإدراك ومعرفة تامة بطبيعة الصعوبات التي يعاني منها الشريك المعاق، إضافة إلى أن نوعية التواصل بين الشريكين تكون على أفضل وجه وأحسن حال، وبأن البيئة التي يعيش فيها الشريكان المعاقان تكون مناسبة ومؤهلة لكلا الطرفين، وفي حالة كون الشريكين من إعاقة مختلفة يكون هناك نوع من الكفاءة الاجتماعية بين الشريكين مما يساعد على نجاح هذا الزواج.
وهذا ما يؤكد أن الأُسَر تحاول تكريس واقع يمكن تجاوزه، فعوض أن تزرع في نفس المعاق بوادر الطموح والآمال، تحاول احباط النفوس وعرقلة سير الأمور.. و بما أن زوجته امرأة واعية جدا، فقد قبلت التحدي رغم أن العوائق كانت عويصة، خاصة أنه كان لا يزال يدرس، و كان لابد عليها كموظفة أن تتجاوز العائق المادي الذي يطرح عند الكل وليس عند الشخص المعاق لوحده، حيث واضبت على الإسهام بجزء من مرتبها في نفقات البيت، وكلما كان هذا الإسهام فيه نوع من الرضا والسماحة كان التفاهم والاستقرار بينهما يزداد ويتعمق.
في مرحلة وجيزة جدا عوضته عن جميع ما مر به من صعوبات، إضافة إلى ذلك غيرت حياته.. لم يشعر يوما أنها تشفق عليه أو تحسن إليه، بقدر ما كانت تعتبره زوجا كفؤا لها، أتم مشواره العلمي بتفوق، ثم شق مشواره العملي عن جدارة واستحقاق، وأثبتت بذلك للجميع أن هذا الشاب رغم تهميش المجتمع له، إلا أنه عندما توضع الثقة في شخصه يكون أهلا لها فعلا، وربما نجد فيه ما لا نجده في شخص سليم، فقد كان يرى ببصيرته القوية كل ما من شأنه أن ينير درب حياته وحياتها معه، رغم أن العائلتين لم تثمنا هذا الزواج، بل ظلت توقعات فشل زواجهما تطاردهما حتى بعد أن أنجبا ثلاثة أطفال أسوياء.
إن القضية هنا تتعلق بإنجاب الأطفال وتربيتهم وتنشئهم، وتتعلق كذلك بقدرة الشريك غير المعاق على مساعدة الشريك المعاق في تلبية أمور حياته اليومية وفي تخطي الكثير من الصعوبات التي يواجهها الشريك المعاق، فهدف الزواج هنا هو الرعاية والتكافل والتراحم بين الزوجين، وهنا تبرز قضايا كثيرة أهمها مفهوم الكفاءة في القدرات البدنية أو الحسية أو العقلية، وهناك تجارب ناجحة في هذا المجال يقابلها تجارب أخرى لم تنل حظها في النجاح.
علما أن الكثير من الدراسات أجريت في السنوات الماضية على زيادة الوعي لدى الأشخاص المعاقين في حقهم بالزواج وتكوين أسرة ومطالبة الحكومات وصانعي القرار من الدول المختلفة في هذا الحق، ونجد ظاهرة العرس الجماعي للمعاقين قد انتشرت في بعض البلدان العربية. وانتشرت كذلك في بعض الدول العربية جمعيات خاصة مهمتها مساعدة الأشخاص المعاقين على الزواج سواء كان ذلك عبر المساعدة المالية أو المساعدة في إيجاد الشريك المناسب. غير أن الصعوبة هنا تكمن في زواج الأشخاص المعاقين ذهنيا، حيث أن الأهلية القانونية والكفاءة والقدرة على تحمل المسؤولية وإنشاء الأسرة وحمايتها ورعايتها والدفاع عن مصالحها، يفتقدها الكثير من الأشخاص المعاقين ذهنيا أو هي موضع تساؤل.
وبشكل عام نجد أن أصحاب الإعاقة العقلية البسيطة يكونون أكثر حظاً في الزواج، خاصة عند توفر عوامل أخرى مثل المستوى الاقتصادي والاجتماعي الملائم. وفي هذا الإطار نشير إلى أن زواج بعض فئات المعاقين حركيا عندما يكون سبب الإعاقة إصابة الجزء الأسفل من العمود الفقري أكثر صعوبة من زواج الفئات الأخرى، حيث يصحب هذا النوع من الإصابات في العادة الإصابة بعجز جنسي وعدم القدرة على التحكم بالبول والإخراج… ويعد إخفاء المعلومات في هذا المجال نوعا من الغش في الزواج، الذي تمنعه التقاليد والأعراف السائدة في المجتمع، ويحرمه الدين الإسلامي أشد تحريم.
وفي أحسن الأحوال ليس من السهل على الشخص المعاق أن يجد شريكا، وتلعب هنا عوامل وظروف أخرى غير الإعاقة دورا في الأمر مثل المستوى الاجتماعي والاقتصادي للشخص المعاق، فالشخص المعاق القادر ماليا يكون من الأسهل عليه الزواج حتى من شريك غير معاق. والأمر نفسه عند الحديث عن المستوى أو الطبقة الاجتماعية. إن للأسرة والمجتمع دور أساسي في الدفع بالمعاق نحو الأمام، ولا يخلو تفكير المجتمع من (إعاقة ذهنية) اتجاه الشخص المعاق، تمنع المعني من تحقيق الاندماج الاجتماعي، ومن الشعور بالثقة في الذات ومن التقدير والمحبة في مجتمعه. فالزواج حق لكل بني آدم، ولا فرق في ذلك بين سوي ومعاق، ما دامت الاستطاعة حاصلة والقدرة حاضرة فما المانع؟
لذى يجب أن نساهم بشكل كبير، في مساعدته لتحدي كل العراقيل التي تحول دون تحقيق حقه في الزواج، لأن المعاق إنسان خلق لأداء رسالة الاستخلاف في الأرض، ولم يخلق عبثا، بالتالي فهو لا يبحث عن إدماج، لأنه مدمج أصلا، ولنا مثال في السيرة النبوية عبد الله بن أم مكتوم الذي استشهد في القادسية، وهو يحمل الراية، ولم يكن للمعاق برنامج خاص به، بل إنه ابن المجتمع، وعليه أن يؤدي وظيفة تليق به، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وبعزة النفس يعيش محترما. كما لا ينبغي أن نكرس النظرة التي توهم المرأة المعاقة، أنها لا تستطيع أن تؤدي وظيفتها أو أن يتزوجها إنسان سوي، خاصة في وقت أصبحت بعض شروط الزواج تعجيزية، ولا ننسى أنه يوجد في البر ما لا يوجد في البحر، فكم من أشخاص معاقين أثبتوا قدرات عالية لا يملكها السوي.
لذى لابد من مساعدتهم باستغلال إمكانياتهم وإمكانيات مجتمعهم، للتغلب على الصعوبات التى تمنعهم من قيامهم بوظيفتهم، ورفع آدائهم الاجتماعى إلى أقصى حد ممكن من خلال التوجية والتدريب والتأهيل والمعاونة على استثمار ما تبقى لديهم من قدرات واستخدامها بكفاءة عالية، لأن الغياب شبه التام لهذه التسهيلات، يضاعف من شعورهم بـ"العجز" ويحول دون مشاركتهم في الحياة العامة والاعتماد على أنفسهم، وحين نعطي الحقوق لأكثر الفئات ضعفا نكون قد خطونا نحو العدالة الحقيقية وحاربنا الفساد واللا مبالاة.