أخر الأخبار
الخبز جدير بالعناء
الخبز جدير بالعناء
القمح ما زال سيد طعامنا. نحن أبناء الأرض. كان بالمشقة يُزرع، وبالكدِّ يُحصد، وبالضنك يُرجد (تجمع سنابله إلى البيادر)، وبالصبر يُدرس ويطحن. ومع هذا فرائحة الخبز في الفجر ما تزال تستحق كل هذا الشقاء، الخبز سيبقى جديراً بالتعب، وبامتزاج عرقنا بأديم الأرض.
في أيار كان الحصّادون لا ينظرون أمامهم في الحقل؛ ولا يحدقون في قامات القمح المنحنية بتواضع الخير والامتلاء، كي لا يرعبهم بحر الذهب المتلاطم، بل كانوا ينحنيون بظهورهم ويندغمون بأمهم الأرض، ويوغلون بالحصيدة بصبر وجلد، والشمس تصب سياطها فوقهم، فيستعينون بالغناء على هذا العناء!.
الحصادون تارة يرندحون مواويلهم إلى محبوباتهم أمهات الجدائل السود، ناحلات القدود. وتارة يفتخرون بمناجلهم:(منجلي ومن جلاه/ راح للصّايغ جلاه/ وما جلاه إلاّ بعلبه/ يا ليت العلبة عزاه)، والصايغ هو الذي يسنُّ المنجل ويمضيه، والعلبة كمية كبيرة من القمح!.
أجدادنا الحصَّادون، عندما كانت تشتد عليهم (حنانية الشوب) وتغرقهم بعرقهم، كانوا لا يلوذون إلى ظل ظليل، فلا ظل في الحقول، بل كانوا يجمعون كثيراً من القشِّ، ويشعلونه ناراً تندلع ألسنتها عالية يسمونها (نار الحصيدة)، وما هي إلا دقائق معدودة حتى تهب نسمات الهواء، ويتحرك الجو جالباً الانتعاش اللذيذ للحصّادين. وهذا اختراع بديع لأجدادنا، وهو صحيح من الناحية الفيزيائية، فالنار تسخِّنُ الهواء، فتقل كثافته؛ فيرتفع إلى أعلى؛ ويحلُّ مكانه هواء أبرد، وهكذا، فكأنهم أداروا مروحة سريعة، فتنعشهم قليلاً؛ ليعودوا لمناجلهم أكثر نشاطاً.
     قبيل نهاية يوم حصاد طويل، كانت تختلط قطرات التعب البارقة بعجاج التراب، فتتشيطن المناجل في القبضات الخشنة، وتلتهم قامات القمح، فيما هزهزة أهزوجة النهاية تثير فيهم اندفاعا عظيماً: (والغزالة زارتهُ/ زارتهُ واختارته/ قالت جرني يا مختار/ جرني من عذاب النار)، فيأتي الصدى: (روحي والله جارك/ روحي اطعمي زغارك).
    لم تعد هناك أيام للحصيدة لنا، لأننا لم نعد نزرع قمحا، وصرنا نعتمد على بركات الاستيراد الذي ستتقطع به السبل وسيشيط سعره بعد الحرب على أوكرانيا، فيما سهول حوران المترامية على مدى العين، والتي كانت سلة خبز الامبرطورية الرومانية وصوامعها (أهراء روما)، لا تزرع الآن إلا بالخواء أو بالتبغ على أفضل تقدير. فمتى نأكل مما نزرع؟!، متى؟!. زراعة القمح ستكون خيارنا الأمثل.