أخر الأخبار
حكاية من القدس
حكاية من القدس

أمضيت سحابة يوم السبت الماضي في القدس، صعدت إلى جبل الطور ووقفت أشاهد المدينة المقدسة، جلت بنظري فوقع على قبة الصخرة فاعترت قلبي رعدة المحبين، بقيت محدقاً فلمحت مئذنة المسجد الأقصى تجاور صلباناً ترتفع على قباب الكنائسٍ لكنني لم أستطع تحديد كنيسة القيامة، و كيف لي أن أفعل و أنا الأردني المسيحي الذي قضى العمر الأول في المدرسة يحمل كراساً يعج بصور قبة الصخرة و الأقصى و هما رمزا عروبة القدس، و هذا كلام لن يفهمه إلا من يعرف ماذا تعني العروبة للمسيحي الأردني.
توجهت بعدها إلى جبل الزيتون و رحت أتأمل بستان الزيتون الذي تتوسده كنيسة الجسمانية و يمتلئ بأشجار الزيتون و من بينها تلك الشجرة ذات الساق الغليظ التي صلى السيد المسيح تحتها ليلة القبض عليه من قبل أحبار اليهود عندما جاؤوا يحملون العصي و السيوف ليقتادوه للصلب.
تركت البستان و يممت صوب اسوار الحرم الشريف و دلفت إلى المدينة القديمة من باب النبي داود و مشيت أغذ الخطى في طرقاتها و أزقتها حتى قادتني قدماي إلى كنيسة القيامة، دخلت ساحة الكنيسة و بدأت أحدق في حجارتها، التي هي ذات حجارة المدينة المقدسة في كل مكان، و حاولت أن استرق السمع إلى الشروحات التي تقدم للسياح و الزوار عن مفاتيح الكنيسة و كيف أن عائلة مقدسية مسلمة تؤتمن عليها وظللت أتأمل رمزية المعنى وعظمته في ظل ما أحزنني مشاهدته في مدينة الناصرة قبلها بيوم من أن المدينة لم تتجاوز بعد قضية محاولات بناء مسجد يصر البعض على اقامته في بقعة متاخمة لباب كنيسة البشارة و كأن هذا ما ينقص لحمة المدينة في مواجهة ما يتهدد فلسطين و أهلها من أخطار.
دخلت كنيسة القيامة و صليت بجوار القبر المقدس و صعدت إلى الجلجلة و أضأت الشموع و ودعت الكنيسة و سرت في طريق الالام أتأمل محطاتها و أشاهد المتاجر على جانبي الدرب و أتمعن في وجوه أصحابها من المقدسيين، من مسلمين و مسيحيين، و قد غطى الصبر و الصمود هاماتهم.
دخلت لاستريح في مطعم المدينة الذهبية و صعدت إلى ترسه لاشاهد المدينة القديمة من فوق، قباب الكنائس و مآذن المساجد وقبابها تخطف النظر بطرازها المعماري الفريد، مرة أخرى، وقع نظري على قبة الصخرة، سألت إن كان بإمكاني زيارتها، فقيل لي إن السلطات الاسرائيلية لا تسمح بالدخول اليوم إلا للمسلمين، هذا كله لم يكبح جماح رغبتي الشديدة في رؤية قبة الصخرة و المسجد الأقصى و دخولهما.
تركت المطعم و توجهت إلى باب المغاربة و إذ بالباب متخم بالحراسة، صعدت الدرج المؤدي إلى ساحة الحرم الشريف و استوقفني أحد الحراس و سألني عن هويتي ووجهتي، قلت له أني أردني مسيحي و أنا أعلم أنه ليس مسموحاً لي بأن أدخل لكني لن أغادر القدس دون رؤية قبة الصخرة والمسجد الأقصى، كانت المفاجأه برده بصوت مرتفع: من أجل أبو حسين، تفضل و على الرحب و السعة.
سألته إن كان بإمكاني إدخال مرافقي و احدهما امريكي و الآخر اوروبي، فقال: هؤلاء ليسوا من جماعة «ابو حسين»، أنت تدخل.
دخلت ساحة الحرم و صعدت الدرج باتجاه القبة و وصلت عتبة بابها ووقفت أنظر إلى المصلين المتوجهين إلى الأقصى و قد دنت ساعة صلاة الظهر، دخلت إلى القبة و اعتراني ذات الخشوع الذي جلل لحظة الدخول إلى كنيسة القيامة.
خرجت من القبة قاصداً المسجد الأقصى و وصلت عتبة الدرج المؤدي إلى المسجد و قد تهادت أمامي قباب المسجد و مئذنته، نزلت الدرج مسرعاً، و دخلت إلى المسجد من بوابته الكبرى، و اختلط الوطني بالديني في تلك اللحظة، فلن يدرك معنى أن تكون الأماكن المقدسة تحت الادارة الأردنية إلا من يرى الوضع القائم بأم عينيه بعيداً عن مغالطات المتربصين، فالولاية الهاشمية على المقدسات حاضرة بقوة و تفعل فعلها في تأمين المقدسات و تسهيل حركة المصلين و لولا ذلك لوضعت اسرائيل يدها على كل شيء و ما زاد على ذلك فهو الزبد الذي يذهب جفاء.
لم يخالجني الشك للحظة أن السلطة في المكان لغير الادارة الأردنية رغم كل المحاولات البائسة لتشويه المشهد.
غادرت المدينة القديمة و كلي فخر بوطني و بعروبتي و بأبي الحسين.
كان يوماً من أيام العمر، ففلسطين للأردني هي القلب و الوجدان والجرح الذي لا يندب، و قلب الأردني يحمل عمّان و القدس معاً.