أخر الأخبار
عن «الاستاذ» هيكل.. الذي رحل
عن «الاستاذ» هيكل.. الذي رحل

 مات محمد حسنين هيكل، وما لأحد خرج الى هذه الدنيا، أن يبقى عليها مهما طال به الزمن، نبياً كان ام رسولاً، مُصلِحاً كان ام طاغية، مُثقفاً عضوياً ام مجرد ضيف عابر على فضاء لم يعرفه او يألفه، نظراً لنقص او عيب او تطفل او فضول او تزوير.. امرأة كانت ام رجلاً، قديساً ام زنديقاً.. وطنياً مخلصاً ام خائناً وآفاقاً.
وإذ بقي «الاستاذ» مالئ الدنيا وشاغل الناس في منطقة لم تعرف الهدوء, ولم يتركها المُستعمِرون للحظة واحدة كي تلتقط انفاسها او تعيد بناء اوطانها او تستعيد حقوقها او تنال قسطاً من ثرواتها التي نهبها المُستعمِرون واعوانهم في الداخل، فإن هذا «الجورنالجي» الذي تعِبَ على نفسه ولم يترك فرصة تضيع منه، كي ينهل من الثقافة ويُثري تجربته ويُغْني من «لغاته» ويقترب من الخطر حدود التعرض للموت. كان عَلَمَاً بارزاً في مشهدنا الاقليمي خصوصاً في المشهد المصري, بما هو الاعمق والاوسع والاكثر إفصاحاً عن العروبة الصحيحة والقومية الناضجة والثقافة الارحب والاوسع ,الاكثر تقدمية واهتماماً بمصالح الأمة وانحيازاً للغالبية العظمى من الجماهير العربية, صاحبة المصلحة الحقيقية في الثورة والتغيير وامتلاك الأمة لثرواتها وتمسُّكاً بحقوقها.
كما هو جمال عبدالناصر الذي رحل عن دنيانا قبل نصف قرن تقريباً، ما يزال حاضراً في شخصه وإرثه وتجربته وحياته القصيرة التي كانت ثرية ومأساوية وصعبة وعظيمة في الان ذاته، وما يزال اعداؤه وخصومه، وعلى وجه التحديد جماعات الاخوان المسلمين، يحقدون عليه ويسعون – عبثاً – الى تشويه سمعته واغتياله في الممات – كما حاولوا في حياته – فإن هيكل هو الآخر رغم ما تعرض له من تشويه وحملات لشيطنته والحط من قيمته وتعييره والتصيد لاخطائه او خطاياه، سيبقى في بؤرة الحدث والاستهداف, منذ الان والى أمد مقبل طويل، لانه بالفعل «صحفي» استثنائي في المشهد العربي، يُثير الاعجاب في نفوس الساعين للمعرفة والتعمق والاطلاع, كما يثير الغضب والحقد في نفوس اصحاب «الباع» القصير ومُنتحلي الثقافة والمعرفة وخصوصاً «المهنة» التي ليست في نظرهم سوى ارتزاق وتزلف واستجداء وتزييف، لا سند ثقافياً او معرفياً لها, ما بالك في انحدار الاخلاق وتدهور الذائقة وانعدام الضمير؟
هنا والان... تحضر مسيرة هيكل الصحفي والسياسي والمؤرخ والمُطّل عن قُرب, على المشهد السياسي والاعلامي ودهاليز الاجهزة ودروب الاحزاب وأزقتها.
صحيح ان «الرجل» خرج من جلباب عبدالناصر أو تلّحف به, لكنه لم يكن إمّعة أو صفراً, بل كان لديه ما يقوله وما يفعله وما يطرحه وما يُناقِش فيه وما يقترحه ويدافع عنه, لم يكن صاحب قرار لكنه ساهم في صنعه, شذب صيغته وأسهم في اخفاء – أو اظهار – هدفه, كان بعضه بالون اختبار وكان بعضه الاخر خبراً ويقيناً وكشفاً.
لم يتنكر لعبدالناصر ولا ادّعى لنفسه انجازاً اصطنعه او ساهم في الايحاء بأن الرئيس الراحل, كان يعتمد عليه, اللهم الا في كتابة الخطب بعد أن يكون (ناصر) قد وضع له الخطوط العريضة أو ناقشه في أمر ما, لكنه – هيكل – وقع في الخطيئة الكبرى التي قارفها ودفع ثمنها – والشعب المصري عموماً والعرب وقضية فلسطين خصوصاً – عندما انحاز الى انور السادات في صراعه المُفتعَل مع ما وُصِفَ بِـ»مراكز القوى» في 15 ايار 1971, وكيف انتهت الحال بهيكل, بعد أن تمكن السادات من السلطة ,الى السجن (بعد عشر سنوات في العام 1981) حيث المرارة كانت تفيض في كتاب هيكل الشهير «خريف الغضب» الذي لم يُفلِح في التكفير عن تلك الخطيئة الكبرى التي قارفها (هيكل) في منتصف ايار 1971, ليس فقط في أن السادات مضى في مشروعه الاستسلامي وصلحه المنفرد مع اسرائيل حتى النهاية (بعد أن كان قد انهى دولة عبدالناصر وباع القطاع العام وشطب مُكتسبات العمال والطلبة والفلاحين, تحت عنوان سياسة الانفتاح الاقتصادي التي وصفها الراحل احمد بهاء الدين بسياسة السداح مداح).. بل إن السادات ادار ظهره للعرب وانخرط في مشاريع اذكاء الحروب الاهلية العربية في لبنان وغير لبنان, فضلاً عن اشعاله – والاخوان المسلمون – الصراعات الطائفية في مصر بين «عنصري» الامة.
ليس هيكل نبياً أو قديساً, لكنه شخصية استثنائية استطاع ان يُكَوِّن نفسه بجهوده الخاصة, ربما يكون «انتفع» من قربه من السلطة, الا ان ذلك يطرح سؤالاً عن الالاف من الصحافيين والاعلاميين العرب القريبين جداً من السلطة في بلادهم وغير بلادهم, لكنهم لم يصلوا الى مرتبة هيكل أو حتى ادنى منها بكثير, لا في الثقافة ولا في المهنة ولا في التحليل السياسي ولا في المكانة التي حجزها هيكل لنفسه ولم تُمنَح له, في المشهد العربي كما في المشهد الدولي.. له اخطاء... نعم, له اراؤه المُسبَقة احيانا.. نعم, لكنه يستحق الاحترام والتقدير, لأن اضاء في المشهد العربي الثقافي والاعلامي والصحافي «نجماً» ما يزال يضيء ويشع, مُتمثِلاً في ما حققه في الاهرام وخصوصاً في مركز الاهرام للدراسات السياسية و الاستراتيجية الذي اقامه, وما يزال يضم في جنباته خيرة الباحثين والكتاب والمثقفين, كما جمع هيكل ذات يوم من العام 1968, بين توفيق الحكيم, ونجيب محفوظ ولويس عوض وغيرهم..
رحم الله هيكل.