أخر الأخبار
دروس من القاهرة!
×
كتب عبد المنعم سعيد :
طوال القرنين الماضيين كانت القاهرة مصدرا لكثير من الدروس للعالم العربي، والمنطقة من حولها. ولم تكن الدروس دائما سعيدة، أو للبعض «تقدمية»، أو باختصار مفيدة، ولكنها في كل الأحوال كانت مفيدة سلبا وإيجابا، سلبا عندما تحتم ضرورة تجنبها، وإيجابا عندما كانت تدعو إلى فائدة اتباعها. ومع الأيام والسنوات والعقود، أخذت القاهرة أيضا دروسا كثيرة من محيطها، وفي أوقات الرخاء كانت بيروت مصدرا للفنون والحريات الصحافية، وقبل عقد كانت «دبي» تثير حسد أو دهشة الكثيرين في الخليج وشمال أفريقيا العربي حتى جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية، فبدت التجربة كلها موضع شك. وبالتأكيد فإنه بالنسبة للمحافظين المصريين، على الأقل، فإن صمود الملكيات العربية أمام موجات الربيع العربي أظهر أن القدرة على الاستقرار وثبات السفينة وسط أمواج هادئة يمكن إرجاعه إلى التقاليد والأعراف، بأكثر مما تستطيع مؤسسات غير أصيلة أن تعمل.
ولا بد أن القاهرة سببت من الحيرة لأشقائها من العرب أكثر مما أعطت من يقين، كان نظام مبارك يبدو صلبا وقريبا، ويمكن معرفة أوله من آخره، والثقة فيه كبيرة. ولكن النظام سقط بأسرع مما تصور أحد، وساعتها تعلق الجميع بأن «المجلس العسكري» ربما يشكل استمرارية موجودة حتى لو كانت محجوبة تحت الظل العميق لمؤسسة الرئاسة المصرية. ولكن ذلك بدوره راح، وبنفس الطريقة من السرعة التي أطيح بها بالنسخة العسكرية من قبل، وحل محل كل ذلك حكم جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من السلفيين والمجاهدين السابقين والحاليين، حيث تختلط السياسة بالثورة بالدين، وكل ذلك محمل على أكتاف أجيال جديدة من السياسيين لم تعرف كثيرا عن «النظام العربي»، وما تعلمته فيه الكثير من الشك والتوجس حتى ولو كانت «المحافظة» الفكرية عاملا مشتركا.
ولكن العالم العربي كان قد تغير، ومن الجائز أن المحافظة Conservatism هي السمة الغالبة على نظم الحكم التي هي الأخرى تنظر بتوجس وشك وخوف أحيانا من رياح التغيير العاتية والجارية في دول الربيع العربي. ولكن الحكم أمر، والنظام الاقتصادي والاجتماعي أمر آخر، وعلى سبيل المثال فإن دول الخليج العربية أصبحت أكثر شبابا في حكامها، مع وجود استثناءات بالطبع، ولكن الأهم أن فيها جميعا (في الشركات وحكام الأقاليم وإدارة المجتمع بشكل عام) نخبة شابة أفضل تعليما، وتنتمي بحق إلى طبقة وسطى حديثة ووثابة لا تزال تبني أرضية لأبنية ثقافية وسياسية في المستقبل.
جرى ذلك منذ وقت، ولا زلت أذكر أنني كنت في صحبة الرئيس السابق مبارك في آخر زياراته للخارج وكانت لثلاثة دول خليجية، وكان لقاء في القصر الأميري بمدينة العين بدولة الإمارات، ولم أتمالك نفسي عن المقارنة بين النخبة الإمارتية وتلك المصرية من حيث السن والمعرفة بالعالم، رغم أن مصر في ذلك الوقت كانت تمر بثورة صامتة دفعت بنوعيات جديدة من النخبة في المقدمة. كان الفارق كبيرا، وكانت رافعة التغيير في الخليج هي التقدم الاقتصادي، أما في مصر فقد كان الأمر يحتاج إلى ثورة لكي تظهر نخبة الشباب الجديدة.
ولكن تجربة الثورة والربيع لم يكن فيها الكثير مما يفيد أو يبعث على السعادة، فقد طالت فترة الفوضى بأكثر مما كان مقدرا، وسرعان ما بدا أن الثورة لا تأخذ بالضرورة إلى الأمام، ولكنها قد تجذب أحيانا كثيرة إلى الخلف. ولكن لأن مصر من الحجم، والتأثير التاريخي، ومن الأهمية بحيث يصعب تجاهلها، فإن الأسابيع القليلة الماضية تشير إلى أن التراكم التاريخي للحركات المدنية المصرية، والحجم الصناعي المصري، والمدى الذي وصلت إليه الطبقة الوسطى المصرية وتعبيراتها الثقافية والفكرية، وحتى بيروقراطيتها وقضائها، تشكل في مجموعها قدرات لها القدرة على تغيير التوجه السياسي الذي انقلبت في اتجاهه ثورة يناير (كانون الثاني) أو على أقل تقدير تضع حدودا قوية على حركته.
قبيل ثورة يناير كان هناك اتجاهان للتغيير في مصر: من يريد الثورة حتى يتخلص من الفساد والشريحة الحاكمة التي شاخت على مقاعدها وربما ترغب في توريثها لأولادها؛ ومن يريد التغيير عن طريق الثورة في البنية التحتية المصرية من تحديث وتصنيع واتساع في الطبقة الوسطى، بحيث يكون هناك ضمان في النهاية أن التغيير سوف يكون الديمقراطية وسيادة القانون.
ولأن التاريخ يجري بطريقة غريبة فقد قامت الثورة على الطريقة الأولى، ولكن من قام بها كان الشباب من أبناء الطبقة الوسطى التي غذاها وقواها النظام السابق بالسير على طريق اقتصاد السوق، والتوسع في وسائل الاتصال والتكنولوجيات الحديثة، والنمو الاقتصادي المتسارع. ولكن لأن التجربة السياسية كانت غائبة فإنه سرعان ما ورث الشيوخ الحلبة، سواء كانوا في المجلس العسكري، أو جاءوا من جماعة الإخوان المسلمين، أو حتى من النظام السابق نفسه الذين جاء منهم وزراء ورؤساء وزارات ومحافظون وقيادات في البرلمان والأحزاب. وببساطة فإن ثورة الطبقة الوسطى والـ«فيس بوك» لم تعد كذلك، ولم يبق من «ثورة اللوتس» إلا بضع هياكل حزبية أو سياسية تثير الشغب والضوضاء من وقت لآخر ليس لها قائد، ولا عنوان، ولا هيئات سياسية تعبر عنها. كانت النتيجة في النهاية ليس عودة النظام القديم، ولكن الوصول إلى السلطة من قبل «الإخوان المسلمين» التي تعود أصولها إلى عام 1928 بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية والتي لا تزال بالنسبة لها حتى الآن، كما لو كان السقوط جرى فجر أمس.
ولكن فشل التجربة السياسية لم يعن أبدا أن أصولها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قد تغيرت، بل إن هذه أثبتت خلال الأيام والأسابيع الماضية أنها قادرة على توليد طاقات جديدة من التغيير لا يمكنها ربما أن تحدث انطلاقة كبرى في المستقبل المصري، ولكنها بالتأكيد قادرة على وقف تراجعه إلى الماضي. وكان ذلك حينما لاحت لحظة الحقيقة مع الإعلان الدستوري للرئيس مرسي، والدستور الذي أسرعت جمعية تأسيسية لـ«الإخوان المسلمين» بصناعته لكي يقيم دولة دينية تختلف جذريا عن دولة التقاليد المدنية المصرية منذ إنشاء الدولة عام 1922. ولم تكن المسألة سهلة بالمرة، فقد جرى خلال عام واحد، بحكم السن والشباب، توليد قيادات جديدة اختلفت عن تلك التي قامت بالثورة، ثم سارعت بتسليمها لمن ظنت أنهم أكثر علما وفهما وقدرة على التعامل مع عالم معقد هذه المرة. فإن الصورة أكثر وضوحا، حيث الديمقراطية والمدنية هما الهدف ولها قاعدة سكانية لا بأس بها موجودة في القاهرة والأقاليم الشمالية، حيث التعليم والتصنيع والحداثة ليست كلمات تقال، وإنما واقع من الثروة والسلطة والنفوذ الشعبي والعقل الجمعي والفكر المشترك. درس القاهرة هنا، على تفاصيله الكثيرة، أن الاستثمار في البنية التحتية للتقدم له عائد يستطيع أن يوازن، وربما يقاوم التخلف والتراجع حتى تتغير البنية التحتية لهذا الأخير من خلال عمليات للتنمية المستمرة والمستدامة.
نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"
كتب عبد المنعم سعيد :
طوال القرنين الماضيين كانت القاهرة مصدرا لكثير من الدروس للعالم العربي، والمنطقة من حولها. ولم تكن الدروس دائما سعيدة، أو للبعض «تقدمية»، أو باختصار مفيدة، ولكنها في كل الأحوال كانت مفيدة سلبا وإيجابا، سلبا عندما تحتم ضرورة تجنبها، وإيجابا عندما كانت تدعو إلى فائدة اتباعها. ومع الأيام والسنوات والعقود، أخذت القاهرة أيضا دروسا كثيرة من محيطها، وفي أوقات الرخاء كانت بيروت مصدرا للفنون والحريات الصحافية، وقبل عقد كانت «دبي» تثير حسد أو دهشة الكثيرين في الخليج وشمال أفريقيا العربي حتى جاءت الأزمة الاقتصادية العالمية، فبدت التجربة كلها موضع شك. وبالتأكيد فإنه بالنسبة للمحافظين المصريين، على الأقل، فإن صمود الملكيات العربية أمام موجات الربيع العربي أظهر أن القدرة على الاستقرار وثبات السفينة وسط أمواج هادئة يمكن إرجاعه إلى التقاليد والأعراف، بأكثر مما تستطيع مؤسسات غير أصيلة أن تعمل.
ولا بد أن القاهرة سببت من الحيرة لأشقائها من العرب أكثر مما أعطت من يقين، كان نظام مبارك يبدو صلبا وقريبا، ويمكن معرفة أوله من آخره، والثقة فيه كبيرة. ولكن النظام سقط بأسرع مما تصور أحد، وساعتها تعلق الجميع بأن «المجلس العسكري» ربما يشكل استمرارية موجودة حتى لو كانت محجوبة تحت الظل العميق لمؤسسة الرئاسة المصرية. ولكن ذلك بدوره راح، وبنفس الطريقة من السرعة التي أطيح بها بالنسخة العسكرية من قبل، وحل محل كل ذلك حكم جماعة الإخوان المسلمين وحلفائهم من السلفيين والمجاهدين السابقين والحاليين، حيث تختلط السياسة بالثورة بالدين، وكل ذلك محمل على أكتاف أجيال جديدة من السياسيين لم تعرف كثيرا عن «النظام العربي»، وما تعلمته فيه الكثير من الشك والتوجس حتى ولو كانت «المحافظة» الفكرية عاملا مشتركا.
ولكن العالم العربي كان قد تغير، ومن الجائز أن المحافظة Conservatism هي السمة الغالبة على نظم الحكم التي هي الأخرى تنظر بتوجس وشك وخوف أحيانا من رياح التغيير العاتية والجارية في دول الربيع العربي. ولكن الحكم أمر، والنظام الاقتصادي والاجتماعي أمر آخر، وعلى سبيل المثال فإن دول الخليج العربية أصبحت أكثر شبابا في حكامها، مع وجود استثناءات بالطبع، ولكن الأهم أن فيها جميعا (في الشركات وحكام الأقاليم وإدارة المجتمع بشكل عام) نخبة شابة أفضل تعليما، وتنتمي بحق إلى طبقة وسطى حديثة ووثابة لا تزال تبني أرضية لأبنية ثقافية وسياسية في المستقبل.
جرى ذلك منذ وقت، ولا زلت أذكر أنني كنت في صحبة الرئيس السابق مبارك في آخر زياراته للخارج وكانت لثلاثة دول خليجية، وكان لقاء في القصر الأميري بمدينة العين بدولة الإمارات، ولم أتمالك نفسي عن المقارنة بين النخبة الإمارتية وتلك المصرية من حيث السن والمعرفة بالعالم، رغم أن مصر في ذلك الوقت كانت تمر بثورة صامتة دفعت بنوعيات جديدة من النخبة في المقدمة. كان الفارق كبيرا، وكانت رافعة التغيير في الخليج هي التقدم الاقتصادي، أما في مصر فقد كان الأمر يحتاج إلى ثورة لكي تظهر نخبة الشباب الجديدة.
ولكن تجربة الثورة والربيع لم يكن فيها الكثير مما يفيد أو يبعث على السعادة، فقد طالت فترة الفوضى بأكثر مما كان مقدرا، وسرعان ما بدا أن الثورة لا تأخذ بالضرورة إلى الأمام، ولكنها قد تجذب أحيانا كثيرة إلى الخلف. ولكن لأن مصر من الحجم، والتأثير التاريخي، ومن الأهمية بحيث يصعب تجاهلها، فإن الأسابيع القليلة الماضية تشير إلى أن التراكم التاريخي للحركات المدنية المصرية، والحجم الصناعي المصري، والمدى الذي وصلت إليه الطبقة الوسطى المصرية وتعبيراتها الثقافية والفكرية، وحتى بيروقراطيتها وقضائها، تشكل في مجموعها قدرات لها القدرة على تغيير التوجه السياسي الذي انقلبت في اتجاهه ثورة يناير (كانون الثاني) أو على أقل تقدير تضع حدودا قوية على حركته.
قبيل ثورة يناير كان هناك اتجاهان للتغيير في مصر: من يريد الثورة حتى يتخلص من الفساد والشريحة الحاكمة التي شاخت على مقاعدها وربما ترغب في توريثها لأولادها؛ ومن يريد التغيير عن طريق الثورة في البنية التحتية المصرية من تحديث وتصنيع واتساع في الطبقة الوسطى، بحيث يكون هناك ضمان في النهاية أن التغيير سوف يكون الديمقراطية وسيادة القانون.
ولأن التاريخ يجري بطريقة غريبة فقد قامت الثورة على الطريقة الأولى، ولكن من قام بها كان الشباب من أبناء الطبقة الوسطى التي غذاها وقواها النظام السابق بالسير على طريق اقتصاد السوق، والتوسع في وسائل الاتصال والتكنولوجيات الحديثة، والنمو الاقتصادي المتسارع. ولكن لأن التجربة السياسية كانت غائبة فإنه سرعان ما ورث الشيوخ الحلبة، سواء كانوا في المجلس العسكري، أو جاءوا من جماعة الإخوان المسلمين، أو حتى من النظام السابق نفسه الذين جاء منهم وزراء ورؤساء وزارات ومحافظون وقيادات في البرلمان والأحزاب. وببساطة فإن ثورة الطبقة الوسطى والـ«فيس بوك» لم تعد كذلك، ولم يبق من «ثورة اللوتس» إلا بضع هياكل حزبية أو سياسية تثير الشغب والضوضاء من وقت لآخر ليس لها قائد، ولا عنوان، ولا هيئات سياسية تعبر عنها. كانت النتيجة في النهاية ليس عودة النظام القديم، ولكن الوصول إلى السلطة من قبل «الإخوان المسلمين» التي تعود أصولها إلى عام 1928 بعد أربعة أعوام من سقوط الخلافة العثمانية والتي لا تزال بالنسبة لها حتى الآن، كما لو كان السقوط جرى فجر أمس.
ولكن فشل التجربة السياسية لم يعن أبدا أن أصولها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية قد تغيرت، بل إن هذه أثبتت خلال الأيام والأسابيع الماضية أنها قادرة على توليد طاقات جديدة من التغيير لا يمكنها ربما أن تحدث انطلاقة كبرى في المستقبل المصري، ولكنها بالتأكيد قادرة على وقف تراجعه إلى الماضي. وكان ذلك حينما لاحت لحظة الحقيقة مع الإعلان الدستوري للرئيس مرسي، والدستور الذي أسرعت جمعية تأسيسية لـ«الإخوان المسلمين» بصناعته لكي يقيم دولة دينية تختلف جذريا عن دولة التقاليد المدنية المصرية منذ إنشاء الدولة عام 1922. ولم تكن المسألة سهلة بالمرة، فقد جرى خلال عام واحد، بحكم السن والشباب، توليد قيادات جديدة اختلفت عن تلك التي قامت بالثورة، ثم سارعت بتسليمها لمن ظنت أنهم أكثر علما وفهما وقدرة على التعامل مع عالم معقد هذه المرة. فإن الصورة أكثر وضوحا، حيث الديمقراطية والمدنية هما الهدف ولها قاعدة سكانية لا بأس بها موجودة في القاهرة والأقاليم الشمالية، حيث التعليم والتصنيع والحداثة ليست كلمات تقال، وإنما واقع من الثروة والسلطة والنفوذ الشعبي والعقل الجمعي والفكر المشترك. درس القاهرة هنا، على تفاصيله الكثيرة، أن الاستثمار في البنية التحتية للتقدم له عائد يستطيع أن يوازن، وربما يقاوم التخلف والتراجع حتى تتغير البنية التحتية لهذا الأخير من خلال عمليات للتنمية المستمرة والمستدامة.
نقلاً عن صحيفة "الشرق الأوسط"
آخر اخبار القسم
مختارات الكاشف
- زيلينسكي: استخدام روسيا لصاروخ جديد في الحرب “تصعيد خطير”
[المشاهدات: 1]
- الشرطة البرازيلية تتهم بولسونارو رسميا بالتخطيط لانقلاب
[المشاهدات: 1]
- وقف النار في الجنوب اللبناني وما بعد!
[المشاهدات: 2]
- الكرملين: نبذل “جهودا قصوى” لتجنب صراع نووي
[المشاهدات: 3]
تابعونا على الفيس بوك