كانت إسرائيل تنتظر ولا تزال أن تبادر السلطة الوطنية الفلسطينية إلى حل نفسها، وأن يتخلى محمود عباس (أبو مازن) عن موقعه كرئيس لدولة الشعب الفلسطيني المعترف بها بهذه الصفة من قبل معظم دول العالم، بما فيها الدائمة العضوية في مجلس الأمن باستثناء الولايات المتحدة بالطبع والممثلة في معظم المنظمات والهيئات الدولية السياسية والثقافية، وهكذا فإن مجرد التفكير في خطوة كهذه غير وارد، لأنه تلبية لما ينتظره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وما يسعى إليه بعد إقدامه على «خطوة الضم» التي سيقدم عليها، كما قال وكرر القول مرات متعددة.
والمعروف كما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي مراراً وتكراراً، فإن خطوة «الضم» هذه ستبدأ في السابع من يوليو (تموز) الحالي، وهذا هو ما تم بحثه والموافقة عليه، في خطة الرئيس الأميركي دونالد ترمب التي أعطاها اسماً هو «صفقة القرن»، والتي ووجهت بالرفض من قبل الفلسطينيين ومعهم معظم العرب والعديد من دول العالم، ومن بينها كل الدول الأوروبية.
وخلافاً لما ظنه نتنياهو والمتشددون الإسرائيليون فإن (أبو مازن) ومعه بالطبع حركة «فتح» والقيادة الفلسطينية ومنظمة التحرير وكل الفصائل الأخرى قد بادر إلى رفض هذه «الخطة» وقال: لقد رفضناها منذ البدايات وهي لن تمر وستذهب إلى مزبلة التاريخ، وإننا لن نقبل بدولة من دون القدس الشرقية، التي ستكون عاصمة دولة فلسطين المنشودة المنصوص عليها والمعترف بها من الأمم المتحدة ومعظم دول العالم، ومن بينها الدول الفاعلة والمؤثرة... أي دول الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين ودول عدم الانحياز وكل الدول الأفريقية ودول أميركا اللاتينية.
ربما أن الرئيس ترمب ومعه بنيامين نتنياهو ومعظم الإسرائيليين ما كانوا يتوقعون أن الفلسطينيين، ومعهم غالبية العرب باستثناء قطر يرون أن أسوأ ردّ على «الضم» هو حل السلطة الوطنية والتخلي عن اتفاقيات أوسلو، وترك الأوضاع الفلسطينية للفوضى، فهذا غير وارد على الإطلاق وبصورة محسومة ونهائية.
وأغلب الظن أن الرئيس ترمب عندما أعلن ضم القدس بشرقها وغربها لإسرائيل والاعتراف بها العاصمة الموحدة للدولة الإسرائيلية، لم يكن يعتقد أن العالم بمعظمه سيقف ضده بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي الأساسية، وأن 1080 شخصية أوروبية يمثلون 25 دولة قد وقعّوا عريضة تدين مخطط «الضم» هذا وإن من بين الموقعين 240 نائباً بريطانياً، ثم وأكثر من هذا، فإن البرلمان الفرنسي وممثلي مجلس الشيوخ ومنظمات المجتمع المدني الفرنسية، طالبوا رسمياً بفرض عقوبات على إسرائيل.
والسؤال هنا هو: هل يا ترى ستذعن إسرائيل لكل هذه المطالبات الكونية برفض خطة «الضم» هذه التي سيقدم عليها بنيامين نتنياهو في الأيام الأولى من الشهر الحالي...؟ والجواب هو أنه لا شك في أن بعض الإسرائيليين يخشون نتائج مثل هذه الخطوة، والمؤكد أنّ هؤلاء وأبناءهم وأحفادهم يذكرون معركة الكرامة التي هزم فيها الجيش الإسرائيلي، الذي كان لا يزال يعيش نشوة الانتصار على العرب في حرب عام 1967.
والواضح هنا لا بل المؤكد أنّ الإسرائيليين، وهم يسعون لإنجاز عملية «الضم» هذه، إنْ بالنسبة لـ«مستوطنات» الضفة الغربية، وإنْ بالنسبة للمنطقتين الآنفتي الذكر في الجزء الغربي من غور الأردن والبحر الميت، ورغم اتفاقيات أوسلو واتفاقيات وادي عربة مع الأردن؛ يفكرون جدياً في دفع فلسطينيي الضفة الغربية نحو شرق نهر الأردن، إذ إن هاجسهم الدائم هو أن يتجاوز عدد الفلسطينيين عدد الإسرائيليين، حيث إن عدد فلسطينيي عام 1948 أصبح مليوناً وثلاثمائة ألف، مما يعني أنهم مع الوقت القريب سيشكلون رقماً أساسياً في المعادلة السكانية الإسرائيلية.
وهنا فإن المعروف أن عدد العرب، عرب الداخل، أي الضفة الغربية وقطاع غزة، قد وصل إلى نحو خمسة ملايين، وهكذا وإذا أضيف إلى هؤلاء عرب فلسطين المحتلة منذ عام 1948، فإن العدد سيلامس السبعة ملايين، وهذا سيجعل الإسرائيليين يعيشون «كابوساً» دائماً، وبخاصة وهم يعرفون أن عدد اليهود في تناقص مستمر، بينما عدد العرب وفي هذه المناطق الثلاث في تزايد متواصل، وهذا غير فلسطينيي الخارج الذين معظمهم، لا بل كلهم، مصممون على «العودة» ويعلمون أبناءهم بأن وطنهم هو فلسطين التي لا وطن لهم غيرها.
إن هذا يعني أن الإسرائيليين كلهم يفكرون في هذا الأمر ليلاً ونهاراً، وأن هدف إسرائيل الذي بات ينفذه بنيامين نتنياهو، هو منع قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية ودفع سكانها بـ«التقسيط» وبالضغط الدائم إلى الهجرة إلى الأردن، وعلى غرار ما كان جرى في عام 1948 وفي عام 1967. وحقيقة أن مقاومة الشعب الفلسطيني لهذه المحاولات الإسرائيلية حقيقية وفعلية، وأن ما حصل في الكرامة وفي مرتفعات السلط في عام 1968 سيحصل أكثر منه، فالفلسطينيون في مناطق 48 وفي الضفة الغربية وفي غزة أيضاً متمسكون بحقهم التاريخي في وطنهم وملتصقون بترابه، وهكذا فإن عملية تهجيرهم لن تكون سهلة إطلاقاً، وبخاصة أن العالم بمعظمه بات يقف معهم ويؤيدهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس الشرقية.
إنه لا شك في أن هذه المنطقة بانتظار تحولات خطيرة، وبخاصة أن إيران قد حققت اختراقات ديموغرافية وسياسية في أربع دول عربية هي: العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأن تركيا باتت تسيطر على جزء من إدلب السورية، وأنه أصبحت لها قواعد في الصومال وفي ليبيا، وأنها تحاول أن تتمدد في اتجاه تونس، وأن إسرائيل قد ضمت إليها هضبة الجولان السورية، وأنها تخطط الآن وبكل جدية للوصول جغرافياً إلى السويداء ودرعا لفصل سوريا عن الأردن وللاقتراب من الحدود الأردنية - العراقية.
وعليه، وفي النهاية، فإنه على العرب المعنيين «جدياً» بهذه المسألة المصيرية والخطيرة أنْ يواجهوا هذه التحديات كلها كقوة عربية واحدة وكموقف عربي موحد، والمعروف هنا أن العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قد أبلغ الأميركيين والإسرائيليين أيضاً بامتناع الأردن عن المضي بعملية السلام، في حال أي ضمٍّ إسرائيلي للضفة الغربية. ويقيناً فإن ما ينتظره العرب في هذه المرحلة هو أخطر «ما مرّ عليهم»، وأنه إن بقيت الأمور تسير في هذا الاتجاه فإن القادم سيكون أخطر.