نعود بالذاكرة إلى بطحاء مكة المكرمة، نقف أمام مشهد قلما تكرر، فها هو محمد عليه الصلاة والسلام يلقي على البلد الحبيب نظرة الوداع، ميمما نحو المدينة المنورة فيدخلها بالترحاب اللهم وقد أخرجتني من أحب البقاع اليّ، فأسكني في أحب البقاع إليك، ومن يدري ربما تكون المحنة طريقا إلى المنحة والفرج.. وقد كان، ونسلم معه صلى الله عليه وسلم على المهاجرين والأنصار، وتلك لحظة غيرت وجه التاريخ ومساراته، وألغت من كتابه اعتبارات الزمن والمكان لكي تصبح غاية الدعوة الأولى هي قداسة الإنسان.
هذه باختصار مسيرة الهجرة، فهي فكرة وليست رحلة، مرحلة جديدة مكملة، وليست مجرد نقلة، حركة من اجل البناء والتغيير والإصلاح لا مجرد انتقال من مكان الى مكان، تجربة بشرية متقنة أذنت بها السماء، لا محاولة للهروب والبحث عن ملاذات شخصية آمنة.
تأمل معي كيف يمكن ان «يسافر» الإنسان من داخله الى داخله، أو أن يهاجر من حالة الى حالة، ان يقف -أمام المرآة- وينظر الى نفسه ويتحسس أوجاعها، ويعيد حساباتها، ويقرر على الفور بأنه في حاجة الى «الهجرة»، فيودع أمسه الذي مضى ويبدأ يوماً جديداً، فيه يشهر «ولادته» وينفض عنه ما تراكم من غبار، ويغتسل بماء «الرضا» والثقة والأمل، ويدفع عنه أشباح الغرور واليأس والقنوط. اذا أردنا أن نتعلم من الهجرة فلا بد ان نقرأها على هذا المهاد، فهي حركة مدروسة وضعت قانون السببية في اعلى مراتب الاحترام، وارتفعت بقيمة الإنسان الى ما فوق الزمان والمكان، وأرست أخلاقيات التعامل مع الذات والآخر مهما كانت جراحاتهم في النفس عميقة، وأسست لدولة جديدة لها دستور مدني لا علاقة له بالعصبية او الطائفية او أصحاب الوساطات مع السماء.
الهجرة كما نفهمها بناء وانجاز، تضحية وتسام عن الأحقاد، إيمان بالمستقبل وثقة بالغيب، تزاوج بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، إصرار على الفعل والتزام بالحق، تجاوز للتفاصيل والانشغالات، إصلاح للنفسية الإنسانية، وانفتاح على العالم وبحث دائب عن الحقيقة، إيمان بقدرة الإنسان على الإبداع، تغيير في البنى الاجتماعية والمعرفية والأخلاقية، فاتحة لتاريخ جديد ومطلع قصيدة الحضارة التي ما نزال نرددها حتى الآن.
ما أحوج امتنا اليوم الى اعادة قراءة هذه الحادثة الكبرى التي بدأ بها تاريخنا الإسلامي، لنتعلم كيف نخطط لترتيب أولوياتنا، كيف نتمسك بالأمل في مواجهة القنوط، كيف نتخلص من الكسل والتثاؤب ونتحرر من الخوف والتردد، وننطلق في دروب البذل والعمل والاجتهاد.. فالهجرة ضد العزوف عن المشاركة وضد التعصب والعزلة والتجهم.. الهجرة محبة وانجاز، لكننا للاسف نهاجر اليوم بعكس الاتجاه وعلى نقيض المعنى الحقيقي للهجرة النبوية.