كان يمكن لصيف هذا العام أن يكون حاراً جداً، بما لا يقارَن مع ما سبقه من أعوام، إلا أن مرور الأول من شهر تموز الماضي، دون أن يعلن رئيس الحكومة الإسرائيلية رسمياً بدء خطة ضم أجزاء من الضفة الغربية لإسرائيل، كان من شأنه أن تهدأ حالة التوتر السياسي قليلاً، فيما يتواصل الاهتمام بملفات أخرى إقليمية وداخلية، منها متابعة الإصابات المتواصلة بفيروس كورونا، ثم الانفجار الذي حدث في بيروت، كذلك الخلافات داخل الحكومة الإسرائيلية، والاحتجاجات الشعبية على بنيامين نتنياهو، وهذه كلها اهتمامات ذات وقع متوسط، أو حتى منخفض، جعلت صيف هذا العام يقترب من نهايته دون أن تشتد فيه حرارة الأحداث السياسية، لدرجة اندلاع حرب أو مواجهة ما بين طرفين هنا او هناك .
فجأةً ودون سابق إنذار، أي دون أن يتم التمهيد لذلك، بحملة إعلامية، كما جرت العادة من قبل، بدأت «حماس» بإطلاق البالونات الحرارية تجاه ما يسمى بمستوطنات الغلاف القريبة من قطاع غزة، بشكل متدرج وحثيث، وقد لوحظ أن «حماس» في الوقت ذاته قامت بإطلاق ثمانية صواريخ في عرض البحر، أي في وجهة أخرى غير وجهة الغلاف، وفق ما يُعرف في الثقافة العسكرية بتجريب السلاح، أي أن «حماس» لم تفكر بإطلاق ولو صاروخ واحد، لا من قبلها ولا من قبل شركائها الميدانيين، تجاه إسرائيل، نظراً لأن الصواريخ تحدث صخباً وردة فعل حدودها الهلع لدى مستوطني الغلاف.
جل ما أحدثته البالونات الحارقة هو إحداث حرائق صغيرة متفرقة، لم تمر على أي حال دون رد إسرائيلي محدود أيضاً، ألحق أضراراً بنحو عشرين منزلاً في غزة، ولم يستهدف بنية تحتية للمقاومة مثلاً، كل ذلك يعني بأن «حماس» تقوم بعملية احتكاك محسوبة تجاه إسرائيل، التي أيضاً قامت للضغط على «حماس» بإغلاق معبر كرم ابو سالم، المعبر التجاري الذي تنتقل منه احتياجات غزة من المواد المختلفة اللازمة لاستمرار الحياة بحدودها الدنيا في القطاع المحاصر.
عند محاولة الوقوف عند دوافع «حماس» للمبادرة الى هذا الاحتكاك، وتجديد التهديد بتسخين جبهة غزة، لا بد من قراءة الظروف المحيطة الحالية، وفي مقدمة ذلك، عدم الاهتمام الإسرائيلي بجبهة غزة، حيث تركز الجهد العدواني الإسرائيلي ميدانياً وسياسياً ومنذ بداية العام على الضفة الغربية التي تعرضت لكل أشكال الضغط السياسي والمالي والميداني، لدرجة ان إسرائيل وطوال العام الماضي الذي شهدت فيه أزمة حكم متواصلة، لم تهتم بمبادرة يحيى السنوار رئيس «حماس» في غزة الخاصة بصفقة تبادل الأسرى، كذلك يمكن ملاحظة التردد القطري منذ بداية هذا العام على خلاف العامين اللذين سبقاه، فيما يخص الميزانية الشهرية البالغة 50 مليون دولار التي تقوم منذ عام 2018، اي منذ إطلاق مسيرات العودة، بتحويلها الى غزة، لدرجة أن يقوم الإعلام بتسريب خبر زيارة رئيس الموساد يوسي كوهين، الى الدوحة من أجل حث قطر على مواصلة إرسال النقود لـ «حماس» في غزة، وهو ما دفع محمد العمادي الى القول بأن قطر تتصل مع إسرائيل من أجل إدخال الأموال إلى غزة !
كذلك لا بد من ملاحظة إقامة إسماعيل هنية في قطر منذ أكثر من عام ونصف، حين خرج من غزة في شباط العام الماضي بحجة إجراء جولة خارجية، توقعنا حينها بأنه لن يعود لمسقط رأسه، وهذا ما حدث، لكن حينها لم يكن بمقدورنا ان نحدد بالضبط مقر إقامته، أما لماذا فضل قطر عن غيرها، فيما معظم قيادة «حماس» في الخارج، تقيم إما في لبنان او تركيا، فذلك بدافع طمأنة قطر، بأن غزة ستبقى في جيبها، ولن تنتقل الى إيران مثلاً، كما كان حالها قبل سنوات عديدة، حتى يضمن استمرار المراهنة القطرية على نفوذها وأصابعها في غزة، مقابل ما تصرفه عليها من مال.
أيضاً يلاحَظ بأن محاولة التعويض الإسرائيلي عن التراجع في إعلان الضم، تجري في الضفة الغربية، إن كان من خلال الإعلان الرسمي ببناء ألف وحدة سكنية في E1 او من خلال اعتداءات المستوطنين المحمومة والمتواصلة تجاه المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية.
لكن يبدو انه ممنوع على «حماس» الرد على الهجوم الإسرائيلي في الضفة الغربية، أو انها حتى لا تهتم بهذا، فهي مسؤولة أولاً وأخيراً عن غزة التي تحكمها وتسيطر عليها، لدرجة انها اشترطت إعلان انضمامها لمواجهة الضم ميدانياً، بعقد المؤتمر الوطني/الدولي في غزة، فيما السلطة وفتح تفضلان أن يتم التعبير والإعلان عن الوحدة الميدانية في مواجهة الضم في ميدان المواجهة في الضفة الغربية المهددة بالضم والاحتلال.
كذلك يلاحَظ بأن «حماس» قد قامت بتوقيت إطلاق البالونات الحارقة في لحظة كادت فيها الحكومة الإسرائيلية تنهار، بسبب الخلاف على الميزانية، لكن تجاوزها لهذه المحطة، وتأجيل انهيار الحكومة ثلاثة أشهر قادمة، خفف من الضغط على نتنياهو، ولو ان الأمر سار نحو الخامس والعشرين من الجاري دون إقرار الكنيست بالقراءة الأولى تأجيل الميزانية، لربما رفعت «حماس» من وتيرة الاحتكاك على جبهة إسرائيل الجنوبية بالتدريج.
إن بالونات «حماس» التي هي دون الصواريخ، لا تستدعي رد فعل إسرائيلياً قوياً، ولا تستدعي حتى اغتيال كوادر أو عناصر حمساوية ميدانية، كذلك لا تثير الهلع في صفوف مستوطني الغلاف، الذين لو تعرضوا لإطلاق الصواريخ لربما انضموا الى تظاهرات التنديد بنتنياهو التي يواصل جمهور اليسار تنظيمها في قيسارية وتل أبيب والقدس.
أيضاً لا بد من ملاحظة أن «حماس» خرجت لتوها من «فضيحة أمنية»، أظهرت حالة اختراق أمني إسرائيلي، لذا هي بحاجة ماسة لتبييض الوجه الممتقع، وما هي إلا أسابيع ويغلق صيف هذا العام دورته، حيث معروف بأن الحرائق التي تسببها البالونات، تكون في الصيف بالتحديد، بل إن سلاح البالونات ما هو إلا سلاح صيفي، لذا آثرت «حماس» أن تبادر الى احتكاك محدود قبل مرور الصيف، للقول نحن هنا، وربما لإرضاء أكثر من طرف إقليمي، يريد أن يؤكد بأن ورقة غزة ما زالت قائمة، وجاهزة للاستخدام في الوقت المناسب.