ليس هناك أكثر كفرًا من الجوع وتلك حقيقة لأن الأمر هنا يمس الغرائز الأولية ويضرب بقسوة التوازن البيولوجي الأساسي بوجع لا يمكن احتماله في كل أعضاء الجسد محدثًا الموت البطيء الذي يخافه البشر موتًا مؤلمًا.
قرأنا عن عاديات المجاعات التي تحدثها الكوارث الطبيعية وانحباس المطر وجفاف الأنهار وحتى الحروب الأهلية كل تلك التي استدعت حملات التبرعات الإغاثية والتدخل الكوني لكن أن يحدث تجويع متعمد فذلك أشد كفرًا والأسوأ أن الجميع يقف عاجزًا متفرجًا على ما يحدث في شمال قطاع غزة المنطقة التي تتعرض لأشد أنواع الحصار والحرمان.
"قبل أيام وأثناء وقوف ابنتي في طابور المياه سقطت مغشيًا عليها وفي العيادة تبين أنها تعاني من سوء تغذية" هكذا يكتب أحدهم على صفحته على الفيس بوك ويضيف نفسه "بالأمس ابن أختي الصغير لم يستفق من النوم وفي المستشفى تبين أن السكر احترق لديه بسبب سوء التغذية وشح الغذاء" ومئات من الحالات التي تصرخ كافرة بكل ما يجري ومثلها تمتلئ بها ردهات المستشفيات أو ما تبقى منها بعد هذه الحرب الوحشية.
استهلكت الناس أعلاف الحيوانات بعد نفاذ الدقيق والمواد الغذائية وفقدت العملة قيمتها بسبب انعدام ما يمكن شراءه بعد أن تجاوز سعر كيس الدقيق أكثر من ألف دولار قبل أن يختفي تمامًا من السوق وأكلت الناس الأعشاب التي نمت على جانبي الطريق بفعل أمطار الشتاء وانتهى كل شيء ليكتب أحدهم انتهت حلول الأرض والأمر متروك للسماء وإذا كان العالم ينتظر لكن الموت لا ينتظر وبدأت الناس تتساقط بفعل المجاعة.
من الطبيعي أن يكتب أحدهم عن فقدان الناس هنا لثلاثين كيلو من وزنهم هذا أصبح عاديًا ومن الطبيعي أن يسقط صحفي مغشيًا عليه أثناء قراءة تقريره هذا أصبح من عاديات الأشياء غير العادية في حرب تستخدم فيها كل أدوات السحق بغض النظر عن القانون الدولي وأخلاق الحروب لكن عادة حين تكون الحروب إن أطرافها لا تفكر سوى بالنصر بأي ثمن وبأية وسيلة تبرر فيها غايتها لكن الكفر أكثر في المتفرجين الكثر عن تلك المأساة التي تعد الموت بالدقائق والوجع بالثواني.
عيون ذابلة وأجساد هزيلة ومشانق الجوع تنتشرعلى الأرصفة وفي الأزقة والحارت وبات صوت الجوع أعلى من صوت الصواريخ في حرب هي الأكثر ضراوة والأقل أخلاقية ولكن ماذا عن العالم المتفرج؟ هنا السؤال الصعب الذي يقف شاهدًا ويعد الضحايا مناشدًا ألم يستطع هذا العالم الدمجج بما يكفي من القوة لإنقاذ هؤلاء؟ والسؤال الجارح ماذا عن الأشقاء الذين ينظرون لكل ما يجري من موت آخر أشكاله الجوع وأكثرها إيلاماً يتساءل أهل الشمال الذين تعددت أمامهم خيارات الموت مستعيدين نخوة العربي التي كانت يومًا فقد سقط كل هذا كافرين به فهذه الحرب أسقطت كثير من الإعتقادات وكثير من النظريات وكثير من الأوهام التي عششت لعقود في أذهان الغزيين حين وجدوا أنفسهم عرايا وحدهم وجهًا لوجه أمام الموت قتلًا وجوعًا.
"يابس ..مر ..ريحته مقرفه يمة " يكتب أحدهم عن أمه وهي تعطيه رغيف خبز بعلف الحيوانات، ويواصل "ما قدرت أقول لها بأعرفه يا أمي" هذا هو الحال في منطقة المجاعة، رائحة الخبز النتنة، لكن الحقيقة أن ما يفوح هناك هي رائحة الجثة المتعفنة للضمير العالمي الذي مات وترك ممدًا على قارعة العواصم .