أتى انتخاب العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية ليعزّز المسار الآتي: ذهاب حركة التاريخ مرة أخرى، خطوة أخرى، في اتجاه المشروع اللبناني على حساب المشروع الإقليمي في لبنان، وذلك للمرة الرابعة خلال قرنين من الزمن. والصورة هي نفسها عام 2025، وعام 2005، وعام 1918، وعام 1861: يصل المشروع اللبناني إلى حال أشبه بالاحتضار أمام المشروع الإقليمي القابض عليه. لكن الجذوة اللبنانية تبقى مشتعلة في الداخل، فتأتي تحولات خارجية كبرى، لا يد للمشروع اللبناني فيها، ولا تأثير له عليها، فتصبّ في مصلحته وتساهم في إنقاذه. علماً بأن كل تغيير حقيقي في مجتمع ما يرتكز حتماً إلى لحظة الالتقاء بين العوامل الداخلية والعوامل الخارجية. وخلاص المشروع اللبناني، المكرر نفسه في ظروف تاريخية معقدة وكثيرة الاختلاف، ليس مجرد صدفة. فهذا المشروع، المستند إلى معطيات موضوعية، جغرافية وتاريخية راسخة، والتائق على الدوام إلى الإفلات من هيمنة المحيط السلطوي نحو أفق مختلف، عنوانه ثقافة الحرية والانفتاح على العصر والتفاعل مع الآخر والرهان على العلم وعلى نوعية الحياة البشرية، إنما ينسجم بطبيعته مع حركة التاريخ. وهذا الانسجام كان هو قوته الخفية في وجه المشروع العثماني، وفي وجه المشروع السوري، الفيصلي والبعثي والسعادي والأسدي، وفي وجه المشروع الوحدوي الناصري، وفي وجه المشروع الإيراني.
ومع أن الانتخابات الرئاسية اللبنانية شهدتْ على الدوام تدخلات خارجية خفية، فانتخاب العماد جوزيف عون جاء نتيجة تدخّل غربي وعربي قوي ومباشر، لا سابق له في تاريخ لبنان المستقل. ولولا هذا الضغط الشديد المعلن، لما تمّ الانتخاب. فأكثرية البرلمان اللبناني الحالي هي في السرّ أو العلن ضد اختيار مثل هذا الرئيس القوي، المستقيم السيرة، غير المحبّ المال، غير الخاضع لتقاسم المصالح الصغيرة، وغير المشارك في الصفقات طوال مساره. بل هو بالتمام نقيض ما يستهوي غالبية هذا البرلمان، المعلنة منها أو المقنّعة. ذلك أن الغالبية، على اختلاف توجهاتها ومشاربها ومذاهبها، تمثل مصالح الذين خربوا لبنان وأوصلوه إلى القاع على مدى ثلث القرن الأخير، من رجال سياسة ومال وإدارة وأعمال، ومن رجال ازدواجية الدولة الضعيفة والتنظيم المسلّح، المهيمن على مؤسساتها وواضع اليد على قراراتها لصالح «المحور». وجلّ ما كانت تطمح إليه هذه الغالبية النيابية هو رئيس مشارك بصورة أو بأخرى بمسيرة الخراب، يحمي نفسه ويحميها، أو «رئيس توافقي» ضعيف، «يدوّر الزوايا»، على حدّ تعبيرهم، ويحجم عن القرار وسط العواصف، فيبقى كل شيء على ما هو عليه في السنوات الست المقبلة.
لذلك، خلافاً للمنطق الوطني، لم يكن التدخل الغربي والعربي القوي، في هذه الانتخابات الرئاسية، مستهجناً أو مرفوضاً، بل مقبول ومرحّب به، كبارقة أمل ورجاء، في نظر الأكثرية العظمى من اللبنانيين في الوطن والمهاجر، وكعلامة اهتمام عميق بلبنان من المجتمع الدولي. ذلك أن «صانعي الخراب» في الداخل اللبناني تمادوا إلى أبعد الحدود في تجاهل الانهيار العظيم الذي أحدثوه، فلم يُقدموا خلال خمس سنوات على أي قرار إصلاحي، ولم يتركوا وسيلةً من وسائل التلاعب والتأجيل والتمويه والتعتيم إلا واعتمدوها، وسط شلل الداخل ودهشة العالم، إضافة إلى خنقهم انتفاضة 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019 الشعبية، ومنع الانتخابات الرئاسية طوال عامين وشهرين، للحؤول دون إعادة تكوين السلطة على نحو مختلف، ولتركها ورقة تفاوض عابرة الحدود. لذلك، ويا للمفارقة التاريخية، نظر الرأي العام اللبناني إلى التدخل الخارجي، الغربي والعربي، في الانتخابات الرئاسية، كحبل خلاص عجائبي من ظلمة الطبقة الحاكمة في الداخل. ولم يكن ذلك ممكناً لولا التحولات المتسارعة في المنطقة التي أضعفت كثيراً سطوة «المحور»، خصوصاً في سوريا ولبنان، ولولا الحاجة اللبنانية الماسّة للدعم المادي للخروج من هول الركام.
غير أن وصول شخصية واعدة إلى سدة الحكم ليس نهاية الطريق، بل بدايتها. وهو طريق شاق سيحاول «صانعو الخراب» عرقلته، خطوة خطوة، بكافة وسائل التحايل المتاحة، لمنع العهد من الإصلاح الحقيقي، وللحفاظ قدر المستطاع على نفوذهم في المؤسسات، ولعدم فتح الملفات وعدم الوصول إلى المحاسبة، التي تقضّ مضاجعهم. وهم يراهنون في ذلك على عوامل عديدة محتملة، منها التناقضات المجتمعية في الداخل اللبناني، وتأثيرها على تأليف الحكومات وعرقلة برامج عملها، ومصاعب الوضع السوري وانعكاساته على لبنان، وتحولات ما في الوضعين الغربي والعربي، يأملون منها، في مرحلة أو في أخرى، إضعاف الاهتمام بالمسألة اللبنانية. لكن حركة التاريخ في مكان آخر.